في شجرة السياسة اللبنانية الهرمة الجافة الاغصان والاوراق، المجرحة العروق، المكسوة بغبار السنين، يشكل الرئيس العماد ميشال سليمان والى جانبه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، عرقاً أخضر يتوسم فيه اللبنانيون الامل المشجع والعزيمة المصممة والقدرة على الانتقال بالوطن من حال إلى حال. لقد عصفت الانواء بلبنان، من داخلية وخارجية، واستفاقت العصبيات واستبدت الغرائز، حتى كاد بعض اللبنانيين يخسرون ثقتهم باسترداد حاله الطبيعية التي استمر عليها مدة طويلة، بكل ما فيها من سلبيات وايجابيات، مع العلم ان الكبرياء الوطنية كانت دائماً موجودة عند اهله، تمنعهم من اليأس والاستسلام للقنوط، وقد تريهم كما يقول الشاعر، حسناً ما ليس بالحسن!. من رؤساء لبنان لم يلق أحد ترحيباً من شعبه كما لقي العماد سليمان، لا لمزايا واضحة ومشهود بها للرئيس فحسب، بل أيضاً لأن اللبنانيين كانوا أصدق وطنية وأشد كبرياءً من أن يسلموا بديمومة ومشروعية الاحباط الذي اوجدته في وطنهم الرياح المسمومة الآتية من جهات مختلفة. لكأن كل لبناني اكتشف في نفسه فجأة، من حيث لم يكن يقدّر، ذلك العاشق الأمين لوطنه، عاذر عيوبه المردد مع الشاعر العربي في وجه كل الوقائع: أكذب نفسي عنك في كل ما أرى واسمع منك الاذن ما ليس تسمع حالة وطنية ذات خصوصية بكل معنى الكلمة جعلت اللبناني يرحب، كما لم يرحب بأحد من قبل، برمز للحكم، بل ورمزين من النوع الذي توحي صفاته باللياقة الكاملة لبدء مسار جديد صاعد لوطن عملت ارادات داخلية وخارجية على زرع الاحباط في نفوس أبنائه. مرَ يوم في اواخر العهد العثماني واوائل الانتداب البريطاني والفرنسي بمنطقة الهلال الخصيب، سورية والعراق ولبنان وفلسطين والاردن، انتشرت فيه كلمة الرعيل الاول نعتاً لمجموعة من الساسة القياديين الواعدين المثقفين، من كل الطوائف والمذاهب، والمنشغلين بسد الفراغ الذي تركه غياب الدولة العثمانية واقامة اوضاع بلدانهم على قواعد الاستقلال والتعاون والوعي القومي والوطني. لمع هذا الصف السياسي المهتم أساساً بتصفية آثار الوجود العثماني السلبي في المنطقة والحريص على ان لا يكون التفتت والتشرذم والعبثية وضيق الافق هو الوارث الاول والاخير لواحدة من الامبراطوريات الشرقية المصنفة تاريخياً بين الأهم. وسمي هذا الصف الذي كان منه لبنانيون وسوريون بالدرجة الاولى بالرعيل الاول. لافت أيضاً بشكل ساطع، موقف البطريركية المارونية في تلك الفترة، ممثلة بالبطريرك الحويك، حيث بدت المفارقة الواضحة عنده فرحه بزوال الحكم التركي، اقل بكثير من تخوفه من عدم الجدية والطيش والترحيب المجاني بالتغير الحاصل، في خشية حقيقية عنده من فرحة ساذجة تستقبل بها النخب اللبنانية والمراجع المكرسة التحولات الحاصلة بعفوية غير مسؤولة، بل وفوضوية مكلفة على المديين المتوسط والبعيد. فصحيح ان فرنسا صديقة بعكس تركيا الظالمة ولكن الترقب وانتظار التصرفات يبقى هو الاسلم والاليق والتشاور مطلوب مع سائر اللبنانيين بل ومع السوريين، ولماذا لا؟ بقدر ما فرحت القيادات الوطنية بذهاب الحاكم التركي، تحفظت ازاء الوارث الفرنسي، لتتجمع عفوياً وبقرار في الوقت نفسه، في حركة مجموعة سياسية غامضة الاسم، ولكن معروفة الرموز والاتجاهات أطلق عليها الناس في سورية خاصة قبل ان تطلق هي على نفسها اسم الرعيل الاول. كان قدس اقداسها منذ البدء، ألا تدع الخلافات الجانبية بين اشخاصها تطغى على جوهر ما يجمعها. فالخلافات، حتى العقائدية، يجب ان تبقى ضمن حدود لا تتجاوزها، والمنافسات، وان حق لها ان تتكلم، فإن الاخوة الوطنية ينبغي أن تظل لها حرمتها وحب الرفيق ينبغي ان يستمر مقدماً حتى على كره العدو. فمن تضامنوا ضد التركي لا يجوز ان يتفرقوا في مواجهة الفرنسي اذا اشتط، لأن الاستقلال والحرية والسيادة هي الاساس. لم يخرج الانتداب من سورية ولبنان لأنه كانت هناك تناقضات دولية فقط، بل خرج لأن حداً معيناً من التعاون والتعامل والتسامح بين القيادات كان مؤمناً جاهزاً للتصرف في الكثير من الحالات. ولو شئنا الآن استحضار ولادة الاستقلالات العربية، مع تركيز خاص على الحالتين السورية واللبنانية، لبرزت فوراً على المرآة جهتان، الاولى الرعيل الاول في القطرين، والثانية البطريركية المارونية في لبنان، صاحبة المواقف الاستقلالية والامتدادات الغربية والعالمية ولكن الشرقية كنيسة ولاهوتاً،كما عند الموارنة وغيرهم. لقد اتصف الرعيل الاول من الاستقلاليين في طريقة فهمه وعمله السياسي من أجل الاستقلال، كما اتصف الكرسي البطركي أيضاً في المرحلة نفسها بالانطلاق من اولوية الاهم على المهم، ثم مع الفطنة على سلامة الوحدة الوطنية وتحريم العبث بها في مطلق الحالات. أما البطركية المارونية، كأبرز مرجعة مسيحية لا في لبنان فقط، بل في العالم العربي أيضاً ككل، فإنها تستحق ان يدرس تاريخها ازاء تطورات الوطن العربي كله قديماً وحديثاً، انطلاقاً مما أدته لمبدأ الاستقلالات العربية، بدءاً بلبنان وسورية وما تمسكت به دائماً ككنيسة شرقية واضحة النصرة للعربية والعروبة معاً. وبالمناسبة، اذا كنا كعرب متخوفين كأكثر بلدان العالم من العولمة، فإن شرقية الكنيسة المارونية جعلت من بطركيتها دائماً، حليفة للمنطقة، تدافع عنها دفاعها عن نفسها. في عهد رئاسة الشيخ تاج الدين الحسني، وهو السياسي السوري المتعامل رقم واحد مع فرنسا، لم يجد الشعب السوري هتافاً يعبر به عن عواطفه في رفض الانتداب ورموزه، الا التمسك بالاستقلال كمقياس والهتاف: الشيخ تاج عدو الله والبطرك عريضة حبيب الله، تعبيراً من الشعب السوري عن اولوية النزوع الاستقلالي والتحرري على كل اعتبار آخر. رغم ان لبنان الرسمي كان دائماً عالي الصوت بالافتخار بديموقراطيته، الا ان ألسنة الخلق فيه التي هي اقلام الحق، دأبت على التحفظ عن الاشادة بالديموقراطية ككلمة مغناجة ومفردة تشرح نفسها بنفسها، بلغة اشبه ما تكون برمش جفون بعض الحسناوات يعلنّ به من وراء قناع رقيق، نوع المحبوب، دون تخطي رومنطيقية الديموقراطيين المرهفين إلى نظرة علمية واقعية فيها شيء من السماء، ولكن فيها أشياء من الارض أيضاً. لبنان والديموقراطية مسميان تهاديا الحسنات والسيئات في هذه البقعة العربية من العالم منذ الامتيازات الغربية في العصر العثماني، ثم في ما بعد في مرحلتي الانتداب والاستقلال، وصولاً إلى المرحلة التي نحن فيها الآن. لا بد من التسجيل أن بعض الرجال الالمع في التاريخ اللبناني ممن احبهم الجمهور، لم يكونوا ديموقراطيين بالمعنى القاموسي للكلمة، بقدر ما كانوا قادة شعبيين متقنين فن مخاطبة الجماهير. فزعيم طرابلس التاريخي عبد الحميد كرامي الذي تزعم طرابلس طيلة عهد الانتداب لابساً العمامة، استمرت زعامته دون انتقاص ذرة منها وهو يطل على الجماهير بعد خروجه من توقيف انتدابي رقيع وغير مبرر حاسر الرأس دون عمامة، مقسماً بالله العظيم ألا يعود فيضع العمامة على رأسه الا بعد خروج فرنسا المستعمرة من آخر شبر على التراب اللبناني، وكانت صراحة منه تحريضية أشعلت الغضب الشعبي على فرنسا وعجلت في نهاية الانتداب، كما عجلت من بعد في توليه رئاسة الحكومة الاستقلالية مباشرة بعد رياض الصلح. تاريخياً كانت الشعبية او الشعبوية بلغة المثقفين المحدثين، لا الديموقراطية بالمعنى المؤسساتي الكلاسيكي هي الخيط السحري الذي كان يشد الناس إلى قياداتهم. الآن والآن فقط في رأي بعض المحللين لتطور التاريخ السياسي اللبناني، تبرز في اوساط لبنانية كثيرة صحوة على ان المطلوب من الآن وصاعداً انتفاضة مؤسساتية ضمن الديموقراطية بالمعنى العلمي للكلمة، آن الاوان لأن ينكب على اقامتها وتعهدها رؤساء ونواب وخبراء، وفقاً للقواعد نفسها التي اقام الآخرون المتحضرون في هذا العالم مؤسساتهم الديموقراطية الحاكمة على اساسها. ان الديموقراطية لا تصبح ديموقراطية بالهوى الليبرالي وغريزة الانتصار للحرية، بل ببناء المؤسسات التي بدونها لا تستحق ديموقراطية اسمها. من هنا جدة هذه المرحلة التي نحن فيها واهميتها كمرحلة الديموقراطية المؤسساتية لا الشعبوية ولا الزبائنية، وحتى ولا الشاعرية على ما لكلمة الشاعر في السياسة من احترام عند كل ديموقراطي قديم أو حديث. كل الدلائل تدل على ان لبنان يعيش اليوم مرحلة-فرصة لنقلة نوعية من ديموقراطية كيف ما كان إلى الديموقراطية بالمعنى الوطني والمدني والعلمي للكلمة، كمؤسسة تنافسية في تكوينها ووظائفها، ديموقراطية جدية كما يفهمها العالم. نحن تاريخياً في مرحلة لا تقل في اهميتها عن مرحلة الوثبة الاستقلالية اللبنانية عام 1943، فإذا كانت تلك الوثبة تمت على يد زعماء لبنانيين صادقين لرغبات شعبهم لدولة مستقلة تمثل ارادة شعبها في قيامة كيان وطني حر مشارك في صنع حياة كريمة على الصعيد الوطني والعربي، فإننا اليوم، وللمرة الاولى، في صدد قيام ديموقراطية بالمعنى المؤسساتي للكلمة، والرئيس سليمان بالذات، كابن للبنان سيادي وعروبة أصيلة وتربية مدنية سياسية، مدعو والى جانبه رئيس حكومة ذو تراث مدني ووطني وعربي راسخ هو رئيس الحكومة فؤاد السنيورة..... لقد قلنا قبل اليوم ان بعض الرؤساء يأتون إلى السلطة بالانتخاب. أما الرئيس سليمان فقد جاء للسلطة، لا بالانتخاب فقط، بل بالامتحان أولاً الذي ايقظ الديموقراطية اللبنانية من سكرتها، ولبنان من استضعاف نفسه بنفسه. انه بذلك صار بعد نهر البارد المنتخب والممتحن معاً. وكذلك الرئيس السنيورة هو أيضاً ممن امتُحنوا ونجحوا في الامتحان قبل ان ينجحوا في وصولهم إلى المركز الذي هم فيه. وإذا كان بشارة الخوري ورياض الصلح قد جاءا لوطنهما وشعبهما بالاستقلال، فإن الرئيس سليمان ورئيس حكومته مرشحان للنجاح الاكثر تطلباً حالياً من اللبنانيين، وهو بناء ديموقراطية مدنية حديثة قادرة لأن تكون ناقلة لبنان من وثبة إلى وثبة. لقد كانت الشهابية كعهد، اضافة غير ديموقراطية بالمعنى الصحيح لمفهوم الدولة الحديثة. فعسى ان نكون في زمن تؤسس فيه للمرة الاولى المزاوجة بين مفهوم الدولة ومفهوم الديموقراطية، فلا تكونان كلمتين الواحدة منهما مختلفة عن الاخرى، بل كلمتان لا تكون واحدة منهما صحيحة بالمعنى الجدي، الا بوجود الثانية إلى جانبها، بل في صلب معناها. رئيس سيادي للوطن اللبناني، متمسك بآخر ذرة تراب لبنانية في الشمال، إلى آخر ذرة تراب لبنانية في الجنوب. هكذا فهم الرئيس العماد ميشال سليمان دوره كمنتخب من بني وطنه وأصدقائهم وإخوانهم في العالم العربي لأقدس مهمة هي اعادة الوجه والدور والرسالة للبنان الدولة والمجتمع والقيم، واطلاقه من جديد كوطن طليعي عربي مساهم في نهضة العرب. تعطي مارونية الرئيس المسيحي للبنان ودوره في المنطقة العربية المسلمة، اضافة نوعية ووزناً خاصاً لهذا المركز، جعلا من رؤساء لبنان المتتابعين نجوماً في حركة المنطقة السياسية وليس في لبنان فحسب. فأشخاص كبشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وسليمان فرنجية وشارل حلو، وصولاً إلى الرئيس الحالي، قيادات نظرت اليهم الاوطان العربية كطلائع ذات قدر وجدارة في الدفاع عن عروبة المنطقة أيضاً، وليس لبنان فقط، وخاصة في وجه عدوانية الكيان الصهيوني المستهدف كل عربي مسيحي ومسلم على حد سواء. فديموقراطية لبنان، انطلاقاً من رئاسته، لم تخلق كما ادعى البعض احياناً، مشكلة اضافية صعبة الحل لمشاكل العرب، بل أعطت لبنان مع الرئيس الجديد دوراً في ترقية المفهوم الديموقراطي وإعطاء وجه لبنان المدني الجديد اطلالة محببة في عيون العرب لم ترافقها صعوبات عربية عربية ولا عربية أجنبية مستعصية الحل، بل ان العربي المسلم في كل مكان كان أشد ما يكون افتخاراً بموقف الرئيس المسيحي اللبناني المتصدي لمقارعة الاطماع الاجنبية في المنطقة، وليس الطمع الصهيوني الا واحداً منها فقط.