نفترض ان الحراك العربي الراهن هو بداية مسار تحول مجتمعي في البلدان العربية يمكن اعتباره بمثابة مرحلة تاريخية جديدة توازي بأهميتها مرحلة عصر النهضة العربية (العقود الاخيرة من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين)، ومرحلة بناء الدول الوطنية المستقلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأن المرحلة الجديدة هذه يمكن ان تؤسس لقيام مشروع نهضة عربية ثانية، تحمل كثيراً من عناصر التشابه مع النهضة الاولى، مع الاخذ في الاعتبار كل ما احدثته العولمة (الشاملة لا الاقتصادية فقط) من تغييرات بنيوية في العالم ومجتمعاته كلها. ويمكن وصف ما جرى ويجري بأنه ثورات المجتمع المدني ضد النظم الدولتية، وفي شكل اكثر دقة ضد الدولة الغنائمية التي تشكل السمة المشتركة في بنية الدولة ووظائفها في البلدان العربية على تنوع خصائصها الاخرى. قام المجتمع المدني بهذه الثورات في شكل مباشر، من دون وسائط التعبير التقليدية التي تمثلها المؤسسات السياسية والمدنية من احزاب وجمعيات. ذلك ان عقوداً من الاستبداد الدولتي، المقترن بالتجريم القانوني والعملي لنشاط منظمات المجتمع المدني، خصوصاً في المجال السياسي وحقوق الانسان، قد أدت الى التضييق على قدرة الاحزاب والمنظمات غير الحكومية على العمل، وحصرته ضمن أضيق نطاق ممكن وقيدت فاعليته. والاستمرار الطويل في هذا الوضع، ادى الى ضعف متزايد في تأثير هذه المؤسسات. لذلك كان من الطبيعي، ومع تعذر أشكال التعبير المؤسسي عن الحراك المدني والديموقراطي، فإن المجتمع المدني عبّر عن نفسه من دون وسائط، اي في شكل مباشر بصفته حركة شعبية جماهيرية واسعة، تتجاوز اساليب العمل السائدة بين المنظمات غير الحكومية من جهة، وتتجاوز كذلك عمل الاحزاب الكهلة التي فقدت قدرتها على الاستقطاب والقيادة. وقد وفرت تكنولوجيا الاتصالات وسيلة التواصل وتشكيل أنماط قيادة وتوجيه للحركة من نوع جديد، كما انها شكلت وسيلة فاعلة لاستقطاب التحركات وتوحيدها. كانت هناك محاولات لتشكيل حركة جامعة، سواء على مستوى البلد الواحد او على مستوى البلدان العربية، وقد تمت هذه المحاولات خلال العقود والسنوات الاخيرة احياناً تحت الشعار الوطني – القومي انطلاقاً من التضامن مع فلسطين وما تتعرض له (وآخرها كان الحرب على غزة عام 2008)، وأحياناً تحت الشعار الاسلامي الذي يشكل اساساً قوياً راسخاً في الوعي الشعبي المشترك داخل البلد الواحد وعلى المستوى العربي أيضاً. واستخدمت في سبيل ذلك وسائل وإمكانات هائلة بدءاً من الإعلام وصولاً الى التمويل، استناداً الى الغضب المشروع والشعور بانتهاك الكرامة الوطنية والشخصية بفعل ما تتعرض له بلدان المنطقة من قهر واستبداد وعدوان خارجي وداخلي. مع ذلك لم تنجح الايديولوجيات القومية والدينية في توحيد فئات المجتمع داخل البلد الواحد، كما لم تنجح في توليد مناخ تغييري عابر للحدود بما يشبه عدوى التغيير من تونس ومصر الى مختلف البلدان العربية، والتي يكثفها تحول شعار «الشعب يريد اسقاط النظام»، الى شعار كل التحركات في كل الدول. وحيث فشل الخطاب الديني والقومي، نجح خطاب الدولة المدنية الديموقراطية في تجاوز كثير من الانقسامات والاختلافات في وجهات النظر والاتجاهات داخل البلد الواحد، واستطاع ان يشكل خطاباً مشتركاً مع بلدان تتفاوت ظروفها بشدة، من اليمن الى المملكة المغربية، مروراً بكل الدول العربية الاخرى. ان الخطابين القومي والديني كانا يستبعدان بطبيعتهما وتحققهما الفعلي فكرة الدولة المدنية، وعجزا بالتالي عن توحيد التيارات والاتجاهات والمجموعات السكانية المختلفة، والطبقات الاجتماعية المتنوعة. سر نجاح الثورات انها كانت تحمل مشروعاً للمجتمع كله – تقريباً، واحتمال تعثرها في المستقبل يتعلق بالدرجة الاولى بتآكل هذا الاجماع، وتشتته الى تيارات متنابذة ينغلق كل تيار منها في خطابه الخاص، ويبتعد عن فكرة الديموقراطية وتداول السلطة وبناء الدولة المدنية، بالمعنى الحديث. النهضة العربية في مرحلة النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تعرف العرب الى انفسهم بصفتهم عرباً، اي بهويتهم القومية والوطنية التي توحد الانتماءات الدينية والقبلية في مفهوم الوطنية والقومية العربية بالمعنى الحديث للكلمة. وكان ذلك الطريق الوحيد لقيام حركة الاستقلال عن سلطة العثمانيين، كون الدين عنصراً مشتركاً بين الطرفين. اما العلاقة بين العرب (في حينه) وبين اوروبا فلم تكن (في صورتها العامة) علاقة استعمار وتبعية. وقد وجد مفكرو النهضة في النظام الاوروبي، نموذجاً متقدماً مقارنة بالنموذج العثماني. وقامت هذه الحركة على عناصر متكاملة تبدأ من الهوية العربية بديلاً من الهوية الدينية والقبلية. وكانت تعتبر نموذج الدولة الديموقراطية الدستورية الليبرالية الاوروبية، خصوصاً تداول السلطة وفصل السلطات والبناء الحديث لهياكل الدولة والتشريعات، النموذج الاصلح للدول العربية الساعية الى التحرر من الاستعمار العثماني. وكانت المكونات الحداثية الثقافية قوية فيها، وتحديداً مسألة تعميم التعليم، والتحرر من العادات والتقاليد غير المتناسبة مع العصر، وتحرر المرأة، والاصلاح الديني، وغيرها من العناصر. ولم يؤد انتهاء الحرب العالمية الاولى الى استقلال المجتمعات العربية والشروع في بناء دولتها او دولها الوطنية المستقلة، بل حل الاستعمار الاوروبي محل الاستعمار العثماني، كما تم انشاء دولة اسرائيل. وقد بدأ تشكل الدول الوطنية العربية بدءاً من نهاية الحرب العالمية الثانية من خلال سلسلة من التحركات والانتفاضات والاتفاقات الدولية، ومن خلال سلسلة من الانقلابات العسكرية «والثورات» ايضاً. حملت هذه المرحلة صورة عامة وعناصر سياسية وثقافية مشتركة، على رغم تنوع أشكال الحكم وطرق الوصول الى السلطة التي اختلفت بين بلد عربي وآخر. لكن الطابع العام تميز بالتراجع عن بعض سمات مرحلة النهضة ولا سيما: - تراجع المكون السياسي الليبرالي وفكرة الشرعية المبنية على مبدأ الحق وسيادة القانون ونظام فصل السلطات، لمصلحة شرعيات ثورية تستند الى مشروعية شعبية في لحظة قيامها على اساس خطاب تحرري قومي (معاداة اسرائيل ومواجهة الاستعمار الجديد)، او على اساس ملكيات مستندة الى مزيج من المشروعيات الدينية والقبلية. - اعتبار الدولة هي اللاعب الاساس في تحديد خيارات النمو والتنمية. - تراجع أهمية البعد الثقافي والاجتماعي، بما في ذلك التعامل مع التقاليد الاجتماعية، وتحرر المرأة، وغيرها من العناصر التي كانت لها أهمية اكبر خلال مرحلة النهضة. - تراجع أهمية الاصلاح الديني، لا بل إن اصوات كبار المصلحين الدينيين الذين كان لهم دور حاسم في مرحلة النهضة في الدعاية لنموذج الدولة الديموقراطية الحديثة، خفتت أو تهشمت. - اما في الجانب السياسي، فإن الأيديولوجيات السياسية الثورية والشعبوية لم تكن ترى في الليبرالية الغربية، والديموقراطية الدستورية، وتداول السلطة النموذج المرغوب به، بقدر ما كانت تؤسس لترسيخ النموذج الدولتي المفتوح على احتمالات الاستبداد وقدرة الحاكم على التجديد لنفسه في السلطة وصولاً الى صيغة الدولة الغنائمية الحالية. ان جوهر التراجع الذي عرفته المجتمعات العربية خلال ال120 سنة الاخيرة، يتمثل في تغييب الديموقراطية الدستورية والليبرالية السياسية لمصلحة النظام الدولتي، وفي تغييب الخطاب الحداثي في المجالين الاجتماعي والثقافي لمصلحة الأيديولوجيات القومية والاشتراكية – الدولتية تارة، ولمصلحة الايديولوجيات الدينية السلفية او الاصولية تارة اخرى، ولمصلحة العولمة النيوليبرالية تارة ثالثة. وما يجري اليوم هو بمثابة رد فعل تاريخي اعتراضي على تغييب الديموقراطية واحتقارها من جانب الايديولوجيات والنظم السياسية التي حكمت البلدان العربية بعد الحرب العالمية الثانية. وهو بهذا المعنى، بداية التوجه نحو مشروع نهضة عربية ثانية في زمن العولمة. * مستشار وخبير في التنمية. يعمل مستشاراً إقليمياً لدى اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا - الأسكوا والآراء الواردة تعبر عن الرآي الشخصي للكاتب.