ما ظل، طوال أعوام مضت، مستحيلاً، وما كان مجرد التفكير في تحقيقه أشبه بالمحظور، وما تعاملت معه غالبية المؤسسات الثقافية في السعودية بصفته أمراً شائكاً، ويصعب تحويله واقعاً، تحقق فجأة في الدورة الجديدة من المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، التي انتهت أخيراً، وشارك فيها نحو 350 مفكراً وباحثاً ومثقفاً عربياً. أن تجلس المرأة إلى جانب الرجل في الأماكن المخصصة للحضور في قاعة الندوات، وأن يشارك الشاعر الشاعرة أو الباحث الباحثة الجلوس إلى المنصة نفسها، من المؤكد أنه الجديد الذي حمله «مهرجان الجنادرية» إلى المشهد الثقافي السعودي، وسط غياب، لاحظه المثقفون في السنوات القليلة الأخيرة، لما يمكن أن يمثل إضافة نوعية لبرامج هذا المهرجان وأنشطته، هو الذي انطلق للمرة الأولى قبل ربع قرن، وغيّر كثيراً في نمط النشاطات الثقافية، التي كانت تدار قبله، ودشّن حقبة جديدة فعلاً، على صعيد طرح المواضيع «الساخنة» ليس فقط في المشهد السعودي والعربي، إنما في المشهد الدولي، كما استقطب إلى المشاركة في محاوره عدداً كبيراً من الأسماء البارزة، عربياً ودولياً. ومع أنه يحدث للمرة الأولى في تاريخ الثقافة السعودية قد لا يبدو أنه أمر يثير الغرابة، طالما أن هذه التظاهرة التي ترعاها مؤسسة عسكرية هي الحرس الوطني السعودي، أسست نفسها منذ السنوات الأولى، كفاعلية حيوية تتطلع إلى ما هو أبعد من عقد مهرجان أدبي أو ثقافي، أي المساهمة في قيادة المجتمع إلى الإصلاح، وأن تصبح عنصراً أساسياً يبادر، ويبلور مفاهيم ثقافية وفكرية واجتماعية جديدة. ليس غريباً إذاً، أن تشارك المرأة الرجل القعود إلى المنصة نفسها، من دون حجاب أو فصل، وتلقي ورقتها أو نصها، طالما توجد هيئة استشارية تضم في عضويتها أسماء متنورة تتبنى الفكر الليبرالي، وتفكر من أجل مجتمع بلا قيود، ويدعم مقترحاتها قرار الجهة المنظمة التي هي مؤسسة رسمية. الخطوة التي أقدم عليها «مهرجان الجنادرية» عجز عن تحقيقها، مثلاً، معرض الرياض الدولي للكتاب الذي يعد مناسبة ثقافية كبيرة، يشارك فيها المجتمع كله بأطيافه المختلفة وتنوع مشاربه، إذ يواجه باستمرار سخط «المحتسبين» لمجرد أن تتواجد المرأة بجوار الرجل تحت سقف واسع وفي مكان كبير، وليس على منصة أو في قاعة محدودة، ذلك السخط مثل دعوة صريحة إلى منع الاختلاط. غير أن ما حصل لم يبد أنه استفز محتسبين أو لفت انتباه متشددين، لكن بعض المثقفين عزا مرور هذا الحدث بلا إثارة إلى «المؤسسة التي ترعى وتقف وراء المهرجان». ومن هؤلاء من اعتبر أن ندوات الجنادرية «نخبوية وتعاني قلة الإقبال عليها حتى من المثقفين المهتمين، لذلك مرّ الأمر بسلام». بلا شك ما حصل في المهرجان دفع بعض المشاركين إلى الترحيب، وأظهر بعضهم حماسة فائقة، وتخطى ما كان يعتبره خطوطاً حمراً، فالشاعر اللبناني شوقي بزيع أول من رحب بالخطوة الإيجابية، وحيا وقوفه على منصة واحدة إلى جانب الشاعرة السعودية زينب غاصب والسودانية روضة الحاج بأن راح يقرأ نصوصاً، منعه الحذر والالتزام بضوابط المهرجان من قراءتها في المشاركات السابقة، نصوصاً فيها من الأيروتيك والهواجس الدينية، ما جعله أشبه بمن يغامر باستثمار «الجو» المتاح إلى أقصى حد، خصوصاً أن الأمسية شهدت حضوراً نسائياً كثيفاً. كسر شوقي بزيع الذي يعد أحد الوجوه الأساسية في هذا المهرجان وسواه من ملتقيات أدبية تنظمها جهات مختلفة في السعودية، حاجز «الممنوع» وقرأ قصائد مثل «قمصان يوسف» و «حوار مع ديك الجن» وغيرهما، واستطاع أن ينال حصته كاملة من الإعجاب والتصفيق الحار. وتشجع بعده الشاعر المصري محمد أبو دومة وقرأ قصائد غزلية، وكذلك فعل العراقي يحيى السماوي والسعودي عبدالله السميح، بيد أن بعض الغزل لم يكن في مستوى الحدث، وجاء مباشراً وركيكاً. أعطى السماح بوجود الشاعرة والشاعر على منصة واحدة، ما يشبه الضوء الأخضر، لقراءة ما كان يتحفظ المهرجان، والشعراء أنفسهم، عن قراءته، حين كان «الجو» لا يساعد. بدت الأمسية الأولى فسحة لممارسة حرية القراءة، من دون خشية. تضمن البرنامج الثقافي لهذه الدورة، ندوة رئيسة حملت عنوان «الغرب والإسلام فوبيا»، شارك فيها مفكرون وسياسيون. في هذه الندوة حمّلت وزيرة خارجية موريتانيا السابقة الناها بنت مكناس، المثقفين العرب مسؤولية تشويه صورة الإسلام، فيما أكد الكاتب العراقي رشيد الخيون اختلافه مع إطلاق مصطلح «الفوبيا»، موضحاً أن ملايين المسلمين يعيشون ويعملون في الغرب، ومؤسساتهم الدينية والمدنية مجاورة لسكنى الغربيين، وهم يستفيدون من القوانين الاجتماعية الأوروبية، لافتاً إلى أن التوصيف فيه مبالغة «من المثقفين الغربيين ومثقفينا أيضاً». وشهد البرنامج عدداً من الندوات المصاحبة حول التقنية واقتصاد المعرفة، وواحدة عقدت حول المشهد الثقافي والاجتماعي في اليابان، ضيف شرف المهرجان لهذا العام، ضمت باحثين عرباً ويابانيين. وكان من ضمن المشاركين فيها المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري، الذي قال إن العرب والمسلمين لم يقصروا في متابعة النهوض الياباني، «لكن كان ذلك بصورة عاطفية، وفي الوقت نفسه كان الاهتمام الياباني بالثقافة العربية والإسلامية محدوداً حتى بعد حرب قطع النفط»، لافتاً إلى دراسات شرقية أكدت أن اهتمام اليابانيين بالإسلام جاء من الباب الاقتصادي والسياسي أكثر من الثقافي. وتطرقت ندوة أخرى إلى التحديات الثقافية التي تواجهها السعودية، وكانت واحدة من الفاعليات المهمة التي شهدت حضوراً ولاقت اهتماماً جيداً، وشارك فيها كل من وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة، عبدالله مناع، عزيزة المانع، عبدالله البريدي، هتون الفاسي، خالد الفرم، محمد رضا نصرالله. في هذه الندوة أكد بعض المشاركين غياب استراتيجية وطنية للثقافة في السعودية، خصوصاً في علاقتها مع العالم، والافتقاد إلى الرؤى الثقافية، البعيدة المدى، التي تأخذ في اعتبارها المتغيرات الدولية، فضلاً عن الاختلاف في التيارات والاتجاهات داخل المشهد الثقافي في السعودية. وهناك من طالب القرار السياسي بدعم الثقافة والمثقفين وتمكينهم من الدور، الذي يفترض أن يلعبوه في الحياة في شكل عام، وبضرورة الإصغاء إلى الأسئلة الراهنة التي تلح على المثقف السعودي. فيما دعا وزير الثقافة والإعلام إلى تأسيس استراتيجية للثقافة تساهم فيها الأطياف كافة وتنفتح على المجتمع كله، موضحاً أن وزارته لا تمنع النشر ولم تعاقب كتّاباً على ما كتبوه. ورأى في تواجد المثقفين والمثقفات تحت سقف واحد، دليلاً على أن المجتمع السعودي قطع شوطاً كبيراً في مواجهة تحدياته. وفي اختتام الندوة أعلن عن ملتقى للمثقفين السعوديين يعقد في الأشهر القليلة المقبلة، لصياغة استراتيجية ثقافية لمواجهة التحديات الدولية. أما الأمسيات الشعرية الثلاث، فكانت أيضاً حدثاً مهماً وبارزاً بالحضور اللافت، الذي افتقده معظم الفاعليات الأخرى، وشارك فيها شعراء من لبنان ومصر واليمن والسودان وتونس والمغرب والسعودية. لكن الشاعر عبدالله الصيخان الذي لم يشارك وكان حاضراً في أكثر من أمسية لم يرَ أن الشعر السعودي تم تمثيله في شكل جيد، وتمنّى لو أن المهرجان اختار أسماء أخرى، تعكس الحيوية والتنوع اللذين يميزان المشهد الشعري في السعودية، وتكون على مستوى واحد مع الشعراء العرب المشاركين. ولئن بدا وجود اسم شوقي بزيع مألوفاً وله جمهوره العريض في مهرجان الجنادرية، فإنه في المقابل ظهر اسم مواطنه الشاعر بول شاوول غريباً، وكأن لا علاقة له بحدث ثقافي كهذا، في إعلان عن أمسية شعرية، ليس لأن غالبية الشعراء والشاعرات الذين يشاركونه الأمسية نفسها تقليدية، حتى وإن كتب بعضهم شعراً يمكن وصفه بالحديث، إنما لأن المهرجان لا يدعو عادة شعراء «إشكاليين» يمثلون حساسية شعرية مختلفة، وبلغوا شأواً بعيداً في التجريب، وترسيخ تجربة على مقدار من المغايرة والتمرد على التابوهات باختلافها، ويكتفي بدعوة أسماء بعينها، ولعل المهرجان محق، من وجهة نظره، حين يعمد إلى هذه الأسماء، كباحث عن جماهيرية لأمسياته. غير أن غرابة مشاركة صاحب «كشهر طويل من العشق» تلاشت بمجرد أن عرف أنه لم يأت من بيروت أصلاً، وغاب عن المهرجان برمته، لكن اسمه بقي في الإعلانات التي وزعت على الحضور، وشاهدوها في أروقة القاعات. من ناحية أخرى، طالب بعض المشاركين بضرورة أن يجدد المهرجان الوطني للتراث والثقافة حواراته في كل عام، لتكون منسجمة مع التغيرات، وليعود إليه الوهج والحيوية اللذين غابا عنه في سنواته الأخيرة.