لئن بدا الثناء الذي قوبلت به الدورة الرابعة لمهرجان «سوق عكاظ»، (اختتمت فعالياتها أخيراً في ضواحي الطائف السعودية) فضفاضاً من وجهة نظر البعض، فإن الغالبية ممن حضرت وشاركت رأت فيه مديحاً في محله، وفقاً لما شهدته من تنظيم جيد وبرنامج حفِل بفقرات متنوعة أسهم فيها مثقفون من أنحاء الوطن العربي، إضافة إلى تأكيدات اللجنة المنظمة بألا تقف بالمهرجان عند الشعر والشعراء، إنما تخطط لأن تكون «سوق عكاظ» منصة للتيارات الأدبية المختلفة وأيضاً المناهج الفكرية الجديدة، في ملاءمة مع توجهات القيادة السعودية نحو الانفتاح. «سوق عكاظ» ليست استعادة للحظة تاريخية فقط، بل تحمل في طياتها همّ التعبير عن الحاضر وتشوفاً إلى المستقبل في الوقت عينه. من هنا يمكن فهم تلك المجابهة التي أبداها المنظمون، في أول دورة من المهرجان، للدعاوى المتشددة، التي تعاملت مع انبعاث «سوق عكاظ» بصفته شططاً ومال بعضها الى التحريم لأن السوق - في اعتقاده - إحدى صور الجاهلية الأولى. رئيس اللجنة العليا للمهرجان الأمير الشاعر خالد الفيصل أعلن في لقاء ضم المثقفين، طموحه في أن يصل المهرجان إلى مستوى عالمي، وأن تأخذ «سوق عكاظ» منحًى آخر «أدبياً ثقافياً، يقدم فكر المستقبل للإنسان السعودي. وكيف نقدم أنفسنا للعالم من خلال هذا المهرجان»، مؤكداً أن «سوق عكاظ» صار لها «كيان وشخصية اعتبارية». بدا جلياً من الكلمة التي ارتجلها الفيصل، أن «سوق عكاظ» لن تكون مهرجاناً أدبياً يمتد إلى أيام فقط، إنما تظاهرة ثقافية وحضارية، يتم التعبير من خلالها عن لحظة مفصلية يعيشها المجتمع السعودي باختلاف أطيافه. أراد المنظمون من الدورة الرابعة أن تكون إعلاناً فعلياً عن طموحات لا تحدياً، فكان أن حشدت قائمة من الأسماء تضم أدباء ونقاداً ومفكرين وإعلاميين ومدونين وسواهم. وبفعل الإمكانات الهائلة التي توافرت للمهرجان، بدا كما لو أنه تأسس منذ سنوات، لا أربع فقط. وجاءت الدورة على شيء من الانسجام، بدءاً من الشاعر الذي حاز جائزة «شاعر عكاظ» مروراً بمسرحية «طرفة بن العبد»، التي أثارت وما تزال نقاشاً واسعاً، لما لامسته من مواضيع حساسة، مثل علاقة المثقف بالسلطة، وانتهاء بالفعاليات وتنوعها. ومن الواضح أن «سوق عكاظ» عثرت في شوقي بزيع على ضالتها المنشودة، من أجل أن يكتب النجاح للدورة التي خطط لها القائمون جيداً، لتمثل بداية حقيقية من جهة، وترسخ المهرجان كواحد من أهم المهرجانات العربية من جهة ثانية. فالدورتان الماضيتان واجهتا بعض الانتقادات، وإذا كان الشاعر السعودي الكبير محمد الثبيتي حاز الجائزة في الدورة الأولى، فإن تلك الدورة لم تأخذ حظها من الاهتمام إذ كانت أشبه ببروفة أولية ينقصها الكثير لتتحول عرضاً حقيقياً، إضافة إلى أن قيمة الجائزة التي نالها الثبيتي لم تكن مغرية (نحو 13 ألف دولار فقط) وبدت ضئيلة جداً في مقابل ما أصبحت عليه (حوالى 80 ألف دولار). ولأن الجوائز الخليجية أضحت محل خلاف ونقاش، على رغم حرص المنظمين على النزاهة والموضوعية، كان من البديهي أن يواجه شوقي بزيع أسئلة ذات طبيعة اتهامية، اضطر معها إلى أن يدافع عن نفسه، بالقول إنه لم يقدم أي من نوع من التنازلات كي يحظى بالجائزة، وبالتالي لن يكون مجبراً على نظم قصيدة مديح في ما لو طُلبت منه. يحظى صاحب قصيدة «مرثية الغبار» بجماهيرية وبحضور لافت على المنبر، بل لكأنما وُلِد على منبر، شاعر يعرف كيف يأسر جمهوره، ويحوّل إلقاء قصيدة إلى مشهد للفرجة، من خلال حركات يديه وتعابير وجهه وصوته المتموج. علاوة على حضوره بقوة في المشهد الثقافي السعودي، فلا تكاد تمرُّ مدة من الزمن حتى يدعى، من مهرجانات، الجنادرية مثلاً أو سواها، ومن الجامعات وحتى بعض الأندية الأدبية. وله شريحة واسعة من القراء، فدواوينه تلقى رواجاً في السعودية أكثر من أي شاعر لبناني آخر. فوز شوقي بزيع بالجائزة دفع البعض إلى التكهن بإن الدورات المقبلة، ستشهد ترشيحات من شعراء كبار لنيلها. إضافة إلى قيمة الجائزة، قلد الأمير خالد الفيصل شوقي بزيع بردة صممها يحيى البشري، وهو مصمم سعودي يحظى بشهرة عالمية، واستغرق شهرين في تصميمها، ومزج فيها بين البردة القديمة و«المشلح السعودي» ووشاها بعبارات من تاريخ عكاظ ومن أشعار بزيع نفسه، وببعض التراث السعودي. وخاطها من قماش الحرير والكريب وكلفته ثلاثة كيلوغرامات من القصب الذهبي. وتردد أن كلفتها المالية توازي قيمة الجائزة. (شوقي أسرّ لكاتب هذه السطور أنه يفكر في تأجيرها، على غرار فساتين الأعراس باهظة الكلفة. بالطبع في الأمر دعابة وليس أكثر). وكان من الطبيعي أن يحتفي الإعلام بوسائله المختلفة بصاحب «الرحيل إلى شمس يثرب»، إذ أعاده إلى الوهج الذي لم يفتقده يوماً، هو الشاعر المنبري بامتياز. سجال حول الغلام القتيل ومن أهم ما شهده المهرجان هذه السنة مسرحية «طرفة بن العبد» التي قوبلت بانتقادات واسعة، لجهة إقحام علاقة طرفة بسوق عكاظ، إضافة إلى الخطأ في العمر الذي قتل فيها الشاعر طرفة، إذ ذكرت المسرحية أنه الثلاثين، في حين تشير غالبية المصادر إلى أنه قتل وهو في السادسة والعشرين، ولهذا سمي «الغلام القتيل». كما توقف عدد من النقاد عند الخلل في الإخراج وفي البناء المسرحي نفسه، إذ لم تبدُ المسرحية عملاً بصرياً قادراً على قراءة الشخصية وتقديم رؤية جديدة، تختلف عما جاءت به كتب التاريخ. ولئن كانت المسرحية تحمل اسم «طرفة بن العبد»، فإن حضور طرفة نفسه كان أقل، قياساً بحضور شخصيات أخرى، وهذا أمر يضيفه المتابعون، علاوةً على توقهم عند مسألة الأدلجة التي أضفاها كل من المؤلف والمخرج معاً، على الشاعر الجاهلي، وأفقدته كثيراً من جوانبه الإنسانية. كتب المسرحية رجا العتيبي وأخرجها شادي عاشور ومثّل دور طرفة نايف الخلف وجسّد عبدالله عسيري شخصية المتلمس، فيما قام الفلسطيني/ السوري زيناتي قدسية بدور عمرو بن هند. لكن آخرين اعتبروا المسرحية مفاجأة حقيقية، وهي كانت كذلك فعلاً، لنواحي التأليف والإخراج، والجرأة التي اتسم بها العمل، في لغة الجسد وتعابيره. إلى جانب تقديم رؤية وجودية لهذا الشاعر الذي انتهت حياته نهاية مأسوية، وكان في مقدوره أن ينجو بنفسه. من جانب آخر، أثارت ورقة العراقي عبدالواحد لؤلؤة في «عكاظ» نقاشاً حاداً، حين قال إننا نضحك على أنفسنا «إذا قلنا أن لدينا ناقداً يستحق هذا الاسم»، ولاحظ أن من يكتبون النقد «يكتبون بوجهة نظر نقاد غربيين ويقومون بالإيحاء للآخرين أن النظريات لهم وهي ليست كذلك». وتحدث لؤلؤة، في الندوة التي أدارها الناقد عبدالعزيز السبيل، عن حال الغضب التي تسببت بها آراؤه، مشيراً إلى أن طه حسين «ليس ناقداً، لأنه لا يملك نظرية نقدية، وعندما كتب في الشعر الجاهلي هو فقط طبق نظرية ديكارت في النقد». ولفت إلى أن مشكلته «أنني طويل اللسان وأقول ما أعتقد بأنه صحيح»، في حين أكد التونسي مبروك المناعي «أننا لو طبقنا هذا المقياس لأوقفنا عشرات الآلاف من الناس في مراكز الأمن الوطني ومنعناهم من النقد». وفي محور «تجارب الكتاب» تحدث الزميل الشاعر والكاتب محمد علي فرحات عن تجربته الشعرية، وقال إنه كان يتمنى أن يبقى في موقع القارئ، يقرأ أي كتاب، ويرحل مع أي مؤلف يريد. معتبراً أنه ليس من الضروري للقارئ أن يعتبر القراءة سبيلاً نحو الكتابة. وأشار إلى أنه كان يقرأ الشعر متأثراً منذ الطفولة بالجمالية اللبنانية في نحت الكلام. ولفت إلى أن الشعر العربي محكوم بالعمود، وأن شعر التفعيلة وكذلك قصيدة النثر أبدلت العمود بعمود آخر. وتطرق إلى أنه حين بدأ الكتابة الشعرية كان الشعر في لبنان بديلاً عن الخطاب السياسي، «وهذا ما قتل الكثير من الشعراء في السبعينات، الذين ترجموا البيان الحزبي بكتابة تسمى قصائد». وذكر فرحات أن هنري فريد صعب تولى نشر ديوانه الأول «بابل العصر»، وما أن صدر حتى فوجئ بالاستقبال الجيد له «من شخصيات كان يصعب أن تستقبل كتاباً جديداً أو من كاتب جديد»، معيداً أسباب ذلك إلى اللغة أو طريقة المقاربة. تضمن البرنامج الثقافي للمهرجان أيضاً ندوة حول شعر «طرفة بن العبد» وأخرى عنوانها «المسرح السعودي... إلى أين؟» ناقشت بجرأة التحديات التي يواجهها المشتغلون في المسرح، في ظل غياب المرأة وعدم اعتراف المؤسسة الرسمية. وندوة أخرى حول المستشرقين والشعر العربي. إلى جانب أمسيتين شعريتين شارك فيهما شعراء من أقطار عربية مختلفة، ولعل أبرزهم زينب الأعوج (الجزائر) ومحيي الدين الفاتح (السودان) وبديعة كشغري (السعودية) وأحمد سويلم (مصر).