يحتل العلامة الفيلسوف الشيخ طنطاوي جوهري (1863 – 1940) مرتبة رفيعة بين أعلام القرن العشرين، على مستوى العالم الإسلامي والدولي لمناداته بالإصلاح والنهضة في الأدب والدين والاجتماع والعلوم التجريبية. وقد اختلف الناس في الحكم على الشيخ طنطاوي جوهري، والنظر إلى عمله وجهاده، والآراء مع تخالفها، مجمعة على أنه فيلسوف من فلاسفة الشرق، وحكيم من حكماء العصر، إلا أنه اختلف في مرتبته بين الحكماء. هل هو حكيم اجتماعي ينظر في شؤون الأمة، كما تجلى ذلك في كتابيه: «نهضة الأمة وحياتها» و «أين الإنسان»؟ أم هو حكيم طبيعي لاهوتي يبحث عن الروح وخلودها، وحالها بعد خروجها من أسر المادة، وعن المادة وعجائبها وغرائبها، كما تجلى في كتبه: «جواهر العلوم» و «الأرواح» و «النظام في الإسلام»؟ أم هو فيلسوف طبيعي يبحث عن المادة والهيولي، ونواميس الكون، والفساد في العالم النامي، كما ظهر في كتابه «نظام العالم والأمم» كما يقول الدكتور عبدالعزيز جادو في كتابه «الشيخ طنطاوي جوهري دراسة ونصوص» والصادر عن دار المعارف المصرية؟ ولد الشيخ طنطاوي جوهري في قرية كفرعوض الله حجازي، مركز الزقازيق في محافظة الشرقية في مصر، وحفظ القرآن الكريم في كتّاب القرية، ثم التحق بالأزهر الشريف، وبعد سنوات من الدراسة انقطع عن الأزهر، بسبب الاحتلال الإنكليزي لمصر عام 1882، واستمر الانقطاع ثلاث سنوات، عاد بعدها لاستكمال دراسته، وكان لهذا الحدث أكبر الأثر في تنمية وعيه السياسي. كما كان للشيخ قراءاته المتعددة، وتأملاته في الكون والحياة، الأمر الذي جعله لا يكتفي بالدراسة في الأزهر، فالتحق بمدرسة دار العلوم، وتعلم فيها على مجموعة كبيرة من العلماء والمستشرقين، وقاده طموحه الوثاب لإجادة اللغة الإنكليزية، فقرأ بها الكثير من كتب الغرب، في العلوم الطبيعية، والفلكية والإنسانية، والفلسفية والأدبية فتعرف الى كبار علماء ومفكري الغرب، فراسلهم وراسلوه، فعرفوه عالماً وفيلسوفاً، وداعية إلى السلام، على حد كلام المفكر الإسلامي فتحي عبدالتواب في تحقيقه لكتاب الشيخ جوهري «جوهر التقوى في الأخلاق والتربية» والصادر حديثاً عن «دار الحرم للتراث» في القاهرة. ونتيجة ذلك «جمع الشيخ طنطاوي بين الثقافتين العربية والغربية، بجانب تأملاته في الكون والحياة والإنسان، فكانت المحصلة أنه آمن إيماناً قوياً بأن آيات الله في الكون تطابق آياته في كتابه المحكم القرآن الكريم، لذلك كان إيمانه بهذا التطابق هو النور المشرق في كل كتبه، وعلى رأسها كتابه الكبير «الجوهر في تفسير القرآن الكريم» في ستة وعشرين جزءاً وفي مُلحقه وهو كتابه «جوهر الجواهر» بحسب قول الشيخ فتحي عبد التواب. وتحدث العلامة طنطاوي جوهري رحمه الله - عن سنوات دراسته في دار العلوم، التي عشقها، فقال في مقال له منشور في مجلة «الرسالة» القاهرية: «لم يكن يخطر لي أن في العالم حكمة وفلسفة تكشف اللثام عن هذا الوجود، كلا، ولكن بعد اللتيا والتي أخذت أدرس الفلسفة القديمة بحذافيرها، ولكن بعد ذلك لم أزل في موقعي الأول أريد أن أفهم حقلنا الذي نزرع فيه القطن القمح والذرة والبرسيم. على هذه الأرض وما فوقها، التي تحوي المواد الصالحة للبسنا وأغذيتنا، وأغذية الحيوان وما هذه الطيور الجميلة المغردة المنعشة للفلاح في حقله؟ وأخيراً ما هذا الجمال؟ الجمال الذي أخذ بلبي، وأرقني ليلاً بنظراتي في النجوم، وأبهج قلبي نهاراً بنظراتي في الأشجار والزروع والأزهار». وعين فور تخرجه بتفوق ملحوظ في دار العلوم مدرساً بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم نقل إلى مدرسة الجيزة، فالمدرسة الخديوية بدرب الجماميز من عام 1900 حتى 1910 وفي هذه الفترة كان يدرس الإنشاء والبلاغة والتفسير والأدب والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، كما ترجم عن الإنكليزية الكثير من مؤلفات اللورد افبوري، وشعراً لشكسبير وغيره من أعلام الأدب الإنكليزي. ولما تولى أحمد باشا حشمت نظارة المعارف العمومية عين الشيخ طنطاوي جوهري مدرساً للتفسير والحديث عام 1911 بمدرسة دار العلوم، كما اختير ضمن هيئة التدريس في الجامعة المصرية القديمة حين إنشائها عام 1908، ليلقي فيها محاضرات في الفلسفة الإسلامية، كما طلب للعمل في القضاء الشرعي فرفض. وكان من المؤيدين للزعيم مصطفى كامل، وناصر الحركة الوطنية، وكتب في جريدة «اللواء» يندد بالدول التي تؤسس وجودها على أسنة الحراب، وأصوات المدافع، وتخريب البلاد، وكان يدعو – ويتمنى – أن تؤسس الدول حياتها على تبادل المنافع، والمحبة العامة، كما كان يرى سقراط. ودعاها إلى الديموقراطية والمساواة والعلم والمعرفة. وأراد أن تكون الإنسانية أسرة واحدة، لا يفرق بينها دين ولا لغة. ولقد حظيت مؤلفاته بذيوع وانتشار في الشرق والغرب، فترجمت إلى الإنكليزية والفرنسية والأمهرية والهندوكية والإندونيسية والفارسية والتركية والصينية. وأشاد بفكره وعلمه وموسوعيته كبار علماء الغرب من المستشرقين، فكتابه «نظام العالم والأمم» وهو في جزأين من ألف صفحة يتحدث فيه عن عالم النبات والحيوات والإنسان والمعادن ونظام السماوات، وعجائب الملك والسياسية، وقد قرَّظته الجمعية الملكية الفرنسية، وجمعيات إنكليزية العلمية. وأثنت على الشيخ طنطاوي جوهري الجمعية الملكية الفرنسية قائلة: «نحن لا يسعنا إلا الاعتراف للشيخ طنطاوي جوهري بسعة المدارك، والاطلاع الواسع المقرون بعقل رزين، وحكمه وذكاء، فانظر كيف أتى بالفلسفة العلمية والنواميس الطبيعية، وفنون الآداب العربية الواسعة، وأبرزها بمهارة وعبارة عالية، وليس أجلالنا لهذا الأستاذ لما تقدم ذكره فحسب، وإنما لأنه أيضاً ترجم آراء مؤلفي الإنكليز مثل ايفبري وسبنسر وداروين، وبحث في الفلسفة الإغريقية واللاتينية وجمع زُبْدة آراء جميع العصور، إن الشيخ طنطاوي جوهري رجل فيلسوف حكيم بقدر ما هو عالم دين، وبهاتين الصفتين فسر القرآن الكريم الذي أثبت فيه أنه دين الفطرة». وقد أهدى كتابه «التاج المُرصَّع بجواهر القرآن والعلوم» إلى ملك اليابان، وقد جعله مقدمة في التفسير، جمع فيه مقاصد الإسلام ونظام العالم، وقسمه إلى اثنين وخمسين جوهرة، كل جوهرة منها تفسير آية من آيات القرآن الكريم في ضوء ما كشف عنه العلم الحديث، وقد فرَّظ هذا الكتاب وغيره من كتب الشيخ طنطاوي جوهري، البارون كارادي فو في كتابه «مفكرو الإسلام». كما أن كتاب «نظام العالم والأمم» للشيخ الجوهري أثنى عليه الدكتور هارتمان. أما كتاب «أين الإنسان» للجوهري، فقد أشاد به ولخصه ونشره الفيلسوف الإيطالي سنتيلانا بعنوان «صدى صوت المصريين في أوروبا» وقد قدمه طنطاوي جوهري إلى مؤتمر الأجناس العام الذي عقد في إنكلترا في أواخر شهر تموز (يوليو) عام 1911. وعندما فرغ الشيخ طنطاوي جوهري من تأليف كتابيه «أين الإنسان» و «أحلام في السياسة»، توجه بهما إلى فلاسفة الغرب والشرق، فدعاهم لبحث هذا الموضوع الخطير، إنقاذاً للعالم من الحروب والدمار. وكان لذلك وقع عظيم على المحيط الدولي، وأثر كبير في نفوس دعاة السلام، فتكلم المستشرقون عن هذين الكتابين كثيراً ثناء وإشادة، ومنهم العالمة كريستيان جب، الذي قال: «إني أعلن أن خير كتاب أخرج للناس في هذا الشأن هو كتاب «أين الإنسان» الذي يرسم للعالم بأسلوب فلسفي عميق طريقه المستقيم إلى السلام الدائم، الذي رسمه الله في قوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» (الحجرات: 13). وبهذين الكتابين تقدم العلامة طنطاوي جوهري للترشيح لجائزة نوبل للسلام في عام 1940 كأول مصري عربي يرشح لهذه الجائزة. وقد تطوع البروفيسور مصطفى مشرفة عميد كلية العلوم بجامعة القاهرة آنذاك، والدكتور عبد الحميد سعيد عضو البرلمان، والرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين لترشيح الشيخ جوهري، وأرسلت مؤلفات طنطاوي جوهري إلى البرلمان النرويجي مشفوعة بتقرير عن جهوده في سبيل العلم والسلام، وشهادات علماء إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا بحقه، وفي قيمة وأهمية مؤلفاته العالمية لكن القدر عاجل العلامة طنطاوي جوهري، فوقف كل شيء في هذا الصدد، لأن جائزة نوبل لا تمنح إلا لعبقري على قيد الحياة. وللشيخ أكثر من أربعين كتاباً منها: «جمال العالم وجواهر العلوم»، و «ميزان الجواهر في عجائب هذا الكون الباهر» و «رسالة الحكمة والحكماء» و «مذكرات في أدبيات اللغة العربية» و «الموسيقى العربية» و «السر العجيب في حكمة تعدد أزواج النبي» و «سوانح الجوهري» و «رسالة الهلال في الصيام» و «المدخل إلى الفلسفة» و «جوهرة الشعر والتعريب» وترجمة كتاب «التربية للحكيم كانط» و «الأرواح» و «أصل العالم» و «بهجة العلوم في الفلسفة العربية وموازنتها بالعلوم العصرية» و «القرآن والعلوم العصرية» و «القول الصواب في مسألة الحجاب» و «الجواهر في العلوم والآداب» و «الفرائد الجوهرية في الطرق النحوية» و «المقالات الجوهرية» و «جوهر الجوهر» و «رسالة السر العجيب» و «رسالة مرآة الفلسفة» و «رسالة عين النملة» و «باكورة الكلام على حقوق الإنسان في الإسلام» و «براءة العباسة أخت الرشيد» وله ديوان شعر، تأثر فيه بالأدب الإنكليزي، والأدب العربي وبالعلوم الطبيعية والفلسفية. ويبقى تفسيره «الجواهر» الضخم كماً وكيفاً دُرَّة على جبين القرن العشرين، وعلى جبين صاحبه، فقد حوى كل العلوم التي كانت على عهد طنطاوي جوهري، حتى إن علماء إيران وقتها وصفوه بأنه دائرة معارف عامة، وأقبل عليه طُلاب إيران والهند وتركيا والسودان وشمال أفريقيا وجاوة وباكستان والعراق والشام واليمن وتركستان.