في كتابه (في الفلسفة الإسلامية.. منهج وتطبيقه) تحدث الدكتور إبراهيم مدكور عن المستشرقين وهو يؤرخ لدورهم في مجال العناية بالدراسات الإسلامية بشكل عام، وبالدراسات الفلسفية بشكل خاص، ومنوها بهذا الدور، ومشيدا بفضل هؤلاء المستشرقين الذين اتجهت عنايتهم بالدراسات الإسلامية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ولكنها نشطت في الربع الأول من القرن العشرين. وكان للدراسات الفلسفية نصيب من هذه الجهود، حيث نشرت مؤلفات لفلاسفة المسلمين بقيت مخطوطة زمنا طويلا، وقوبلت أصولها العربية بما عرف لها من ترجمات لاتينية وعبرية، وعلق عليها بما يشرح غامضها، ويعين على فهمها. ولو لا هذا الدور من المستشرقين كما يقول الدكتور مدكور لبقيت هذه المخطوطات مهملة في خزائن المكتبات العامة، ولو لا تمكنهم من عدة لغات قديمة وحديثة، واعتمادهم على منهج صحيح حسب قوله، ما ظهرت هذه المؤلفات على ما ظهرت به من ضبط ودقة. ويرى الدكتور مدكور أن دور المستشرقين لم يقف عند هذا الحد، بل حاولوا أن يكشفوا عن معالم الحياة العقلية في الإسلام، وأرخوا لها جملة وتفصيلا، فكتبوا عن الفلسفة والفلاسفة، والكلام والمتكلمين، والتصوف والمتصوفين، وأخذوا يشرحون الآراء والمذاهب، ويترجمون للأشخاص والمدارس، ووصل بهم الحال إلى نوع من التخصص أضحى معها كل باحث معروفا بالناحية التي تفرغ لها، فهناك من اعتنى عناية خاصة بتاريخ التشريع كالمستشرق المجري جولدزيهر، وهناك من اعتنى عناية خاصة بالتصوف كالمستشرق الإنجليزي نيكلسون، وهناك من اعتنى عناية خاصة بالكيمياء العربية كالمستشرق الألماني روسكا، وهكذا الحال مع آخرين. وهذا ما يؤكد نظر الدكتور مدكور في أن الربع الأول من القرن العشرين شهد حركة استشراق نشيطة، وكان للدراسات العقلية والفلسفية فيها نصيب. بهذا الموقف يكون الدكتور مدكور قد ظهر بمظهر الموقف الهادئ والإيجابي من الاستشراق والمستشرقين، وكان بعيدا كل البعد عن الانفعال والتشكيك بخلاف موقف الكثيرين في المجال العربي والإسلامي، ومن هذه الجهة يمكن تصنيف موقف الدكتور مدكور في خانة أصحاب الموقف الإيجابي تجاه الاستشراق الأوروبي. وعند النظر في هذا الموقف، يمكن تفسيره بعد الكشف عن مجموعة عوامل متعددة ومؤثرة، منها الطبيعة الفكرية المتسامحة عند الدكتور مدكور والتي تجلت بوضوح في كتابه (في الفلسفة الإسلامية)، ومنها عامل التتلمذ على المستشرقين، والزمالة لهم، والصحبة معهم في مراحل تالية، فحين ذهب مدكور للدراسة في فرنسا سنة 1929م، كان من حظه كما يقول أن أستاذا جامعيا فرنسيا كبيرا هو الذي أشرف على بحوثه، ويعني به أندريه لالاند، حيث اتصل به طوال ثلاث سنوات، ووجد فيه حسب قوله الأب الكريم، والمرشد الهادي، وما لقيه مرة إلا وأفاد من توجيهاته ودروسه النافعة، وفي مرحلة تالية زامله بعد عودته إلى القاهرة سنة 1935م، وتعيينه عضوا في هيئة التدريس بقسم الفلسفة كلية الآداب جامعة القاهرة، وكان لالاند أستاذا فيها آنذاك فنعم بصحبته، وبقي على تواصل معه إلى وفاته، فما إن يصل مدكور إلى باريس في أية زيارة له كان يتصل به، ويستمتع بمجلسه. إلى جانب لالاند كان هناك المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الذي تتلمذ عليه الدكتور مدكور في فرنسا، وشارك في مناقشة بحثيه في الدكتوراه، وكان يعتبره عميد المستشرقين المعاصرين. ومن هذه العوامل أيضا، أن جماعة من المستشرقين الأوروبيين هم الذين نهضوا بحقل الفلسفة عند تأسيسه في جامعة فؤاد الأول جامعة القاهرة حاليا، ثلاثة من هؤلاء كان قد تعرف عليهم الدكتور مدكور في باريس وتتلمذ عليهم، وشاركوا في مناقشة بحثيه للدكتوراه، وهم إلى جانب لالاند وماسينيون إميل برييه أستاذ تاريخ الفلسفة القديمة. وإلى هذه المجموعة من المستشرقين الأوروبيين يرجع الفضل في تأسيس وإحياء حقل الفلسفة في التعليم الجامعي المصري. يضاف إلى هذه العوامل، أن المجموعة المصرية التي التحق معها الدكتور مدكور في هيئة التدريس بقسم الفلسفة، وبقي متعاونا معها لزمن غير قصير، كانت على نفس الموقف تقريبا تجاه الاستشراق والمستشرقين. وهي المجموعة التي تذكرها مدكور في كتاب سيرته وأشاد بها، واعتبر أن من حظه العمل إلى جانب يوسف كرم مؤرخ الفلسفة، وأبو العلا عفيفي أستاذ المنطق، ومصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة الإسلامية، وهذه هي المجموعة التي نعم بصحبتها، إلى جانب الأساتذة الأجانب في جو يصفه مدكور كله صفاء وعطاء وحب وتقدير، واستطاعت هذه المجموعة أن تكون أجيالا كان لها شأنها في البحث والدرس الفلسفي منذ العقد الرابع إلى اليوم. وقد عرفت هذه المجموعة المصرية بأسرة الفلسفة، وانظم إليها الأساتذة الأجانب الزملاء لهم في قسم الفلسفة، ومثلت هذه المجموعة الجيل الأول لأساتذة الفلسفة في التعليم الجامعي المصري، وهذا يعني أن البيئة الثقافية والأكاديمية في مصر إلى أربعينيات القرن العشرين ما كانت تظهر تشددا وانفعالا وتشكيكا تجاه ظاهرة الاستشراق والمستشرقين كالذي ظهر فيما بعد في مصر والعالم العربي. ويتمم هذه العوامل، أن الدكتور مدكور حينما التفت إلى حقل الدراسات الفلسفية في المجال العربي ما بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، لم يجد من الترجمات والتحقيقات والنصوص والمؤلفات سوى كتابات المستشرقين التي رجع إليها، واستعان بها في إعداد وتصنيف كتابه عن الفلسفة الإسلامية. وأظن أن هذه العوامل متظافرة، تقدم تفسيرا معقولا ومتماسكا لموقف الدكتور مدكور تجاه ظاهرة الاستشراق والمستشرقين. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 115 مسافة ثم الرسالة