عندما ظهر جيل أصحاب اللحى (كوبولا، سكورسيزي ورفاقهما) خلال النصف الأول من سبعينات القرن الفائت في هوليوود، ليحقق أصحاب هذا الجيل واحدة من أهم الثورات في تاريخ عاصمة السينما عبر أفلام راوحت بين الدنو المباشر من السياسة وكواليسها، والغوص المتجدد في لغات سينمائية جديدة، كان القاسم المشترك في تصريحات مبدعي ذلك الجيل، انهم لم يطلعوا من العدم، ولم يأتوا جديداً في تاريخ السينما الأميركية الحديثة. للوهلة الأولى اعتبر كثر هذا النوع من الكلام تواضعاً من مخرجين شبان وجدوا ان نجاحهم المباغت (عبر أعمال مثل «العراب» و «سائق التاكسي» و «مبارزة»... الخ) يعطيهم امكانية ان يبدوا كريمي الأخلاق الى ذلك الحد. غير أن إمعاناً في التأريخ لحركتهم السينمائية، راح يزيد من اليقين انهم، جميعاً، إضافة الى انتمائهم المعلن والبيّن الى نوع متقدم من السينما الأوروبية، بل كذلك الى بعض سمات السينما الآسيوية، كانوا جيلاً يتابع ما اشتغل عليه جيل أميركي أتى سابقاً لهم في شكل مباشر. الجيل الذي يمكننا اليوم ان نقول انه هو «الجيل المؤسس»، حتى وإن كان قد ظلم لكونه أتى «مطحوناً» بين جيل العمالقة (من ويلز وفورد ووايلدر، الى وايز وهستون...)، وبين جيل أصحاب اللحى. كان جيلاً مطحوناً بالتأكيد، ولكن ليس في مجال قدرته على تحقيق أفلامه وإنجاحها واكتساب جمهور عريض يشاهدها في أميركا والعالم، ونقاد يواكبونها، بل في مجال تحوّل أفلامهم الى أعمال يؤرخ من خلالها لتطور أساسي في السينما الأميركية. ونقول هنا تحديداً في السينما الأميركية، لأن الجيل التالي، كان، أكثر منهم، ذا أثر أساسي في السينما العالمية، أكثر مما في السينما الأميركية. في هذه العجالة قد يبدو هذا الكلام معقداً بعض الشيء، وقد يبدو تبسيطياً، لأن التيقن منه في حاجة الى تحليل وتأريخ تفصيليين. ومع هذا نغامر ونقول ما يمكن قوله حول هذا الأمر، وبالتحديد انطلاقاً من رحيل واحد من أبرز مبدعي هذا الجيل «المطحون» منذ أيام، ونعني به سدني لوميت، الهوليوودي بامتياز، وإنما بالمعنى العميق للكلمة. أي الهوليوودي الذي بكّر في إدراك الدور الذي يمكن الفن السابع أن يفعله بتأثيره العميق في ذهنيات الجمهور، وبقدرته الهائلة - بالتالي - على أن يكون ذا دور في التوعية، إنما من دون أن يفارق في الوقت نفسه دوره، في الترفيه وفي الحكي - أي في جعل الفيلم في حد ذاته حكاية، توصل، رسالة. وليس رسالة لا تعبأ بأن توصل الترفيه أيضاً. وفي هذا الإطار، يمكننا ان نجمع ان سينما لوميت، كما سينما سدني بولوك وآرثر بن وجون فرانكنهايمر، وأقل منهم مجايلهم ويليام فردكين، الذي هو الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة من بين هؤلاء الخمسة الذين شكلوا العلامات الأساس للجيل الذي نتحدث عنه. هم إنساني... سياسي لقد حقق هؤلاء، وعلى الأقل خلال الثلث الأخير من القرن العشرين - وخلال العشرية الأولى من القرن التالي له - بالنسبة الى البعض - أفلاماً شعبية بالتأكيد، ولا نقول جماهيرية طالما ان القسم الأعظم من أفلامهم لم يأت أعمالاً ضخمة تزحف مئات الملايين لمشاهدتها. وشعبية هذه الأفلام، أو معظمها، إنما أتت أولاً من كونها تحمل حكايات آتية من صلب الواقع الاجتماعي، وغالباً مع نجوم تمكنت أسماؤهم من اجتذاب المتفرجين وإن باعتدال، وعبر لغة سينمائية مفهومة حتى وإن دنت من التجديد بعض الشيء. وكل هذا في إطار موضوعات تلامس الهم الإنساني وربما السياسي أيضاً. ولئن كان من الصعب هنا استعراض نحو مئتي فيلم مميز - في غالبية الأحيان - حققها أبناء هذا الجيل ولم يتوقف كل منهم عن تحقيقها حتى السنوات الأخيرة من حياته، فإن من المفيد في المقابل أن نذكر بعض أبرز أفلام أبناء هذا الجيل، وهي في معظمها أفلام عرفت على نطاق واسع في شتى أنحاء العالم، إضافة الى ان معظمها إما نال الكثير من جوائز الأوسكار، خلال العقود السابقة أو سمّي لنيل تلك الجوائز. من «بوني وكلايد» و «المطاردة» لآرثر بن، الى «الوصلة الفرنسية» و «الراقي» لفردكين، الى «7 أيام في مايو» و «القطار» و «المرشح المنشوري» لفرانكنهايمر، مروراً ب «أيام الكوندور الثلاثة» و «جيريميا جونسون» و «خارج أفريقيا» و «انهم يقتلون الجياد أليس كذلك؟» لسدني بولوك، ومروراً كذلك بعدد كبير من أفلام سدني لوميت، الذي ربما يصح اعتباره من بينهم، المبدع الذي واصل العمل من دون انقطاع على مدى خمسين سنة كاملة، إذ إن فيلمه الروائي الطويل الأول، والأشهر بالتأكيد «12 رجلاً غاضباً» يعود الى عام 1957، فيما نراه يحقق فيلمه الأخير، وربما الأقوى في مساره، «قبل أن يعرف الشيطان أنك متّ» في عام 2007. إذاً، خلال خمسة عقود كاملة من السنين حقق لوميت مساراً سينمائياً يكاد يكون ثابتاً، في طريقة دنوه من موضوعاته، كما في لغته السينمائية التي، على رغم خصوصيتها، تبدو أقرب الى الكلاسيكية، وكما - كذلك - في اختياراته ممثليه، الذين يحملون الأسماء الأبرز في هوليوود على مدى أزمان طويلة، وبشكل محدد يتألف المتن السينمائي للوميت، من 44 فيلماً تمتد على مدى الخمسين سنة التي نتحدث عنها هنا. وهذا، من دون حسبان الأعمال الكثيرة التي حققها للتلفزيون سنوات قبل إقدامه على تحقيق «12 رجلاً غاضباً» الذي كان بدوره على أية حال عملاً تلفزيونياً مقتبساً من مسرحية ناجحة ل «ريجنالد روز». وهنا قد يكون مفيداً أن نذكّر بأن معظم المخرجين من أبناء هذا الجيل الذي نتحدث عنه، كانوا في الأصل جيلاً آتياً من العمل التلفزيوني، حيث إن سنوات الخمسين وبدايات الستين من القرن الفائت كانت شهدت فورة في انتقال المبدعين من الشاشة الصغيرة الى الكبيرة، وغالباً من طريق أعمال مسرحية كان في الإمكان تحويلها الى أعمال سينمائية. ونعرف ان هذا التوصيف ينطبق، تحديداً على «12 رجلاً غاضباً» (التي، ويا للصدفة، سيعيد ويليام فردكين إنتاجها للتلفزيون عام 1997). والحقيقة أن دنو لوميت من الحس الاجتماعي بدأ بالتحديد مع هذا الفيلم المبكر، الذي حاول أن يسبر أغوار لعبة القضاء والمحاكمة من خلال حكاية 12 محلّفاً، يجتمعون داخل غرفة جانبية في المحكمة لإصدار حكمهم الإجماعي على فتى متهم بقتل أبيه. ويفشلون بدءاً من واحد منهم لا يرى الأدلة كافية. لقد كان من الممكن لهذا الفيلم أن يفشل ويبدو مملاً إذ يستغرق ساعة ونصف الساعة في غرفة مغلقة بين 12 ذكراً، لكن عمق الحوار، وقوة السيناريو وبراعة الممثلين (وعلى رأسهم هنري نوندا، ولي. جي. كوب) جعلته عملاً شيقاً قوياً لا يزال يعتبر حتى اليوم واحداً من أعظم 100 فيلم أميركي حققت طوال قرن بأكمله. مواضيع أساسية مشتركة ولقد أمّن هذا الفيلم لمخرجه الشاب آنذاك (33 سنة)، نجاحاً وسمعة كبيرين، هو الآتي من أوساط الفنانين النيويوركيين (كان أبوه ممثلاً) والذي تقلب في مهن عدة ومن بينها التمثيل، ثم الإخراج المسرحي والتلفزيوني قبل وصوله الى الشاشة الكبيرة. والحقيقة ان هذه العناصر كلها ستلعب أدواراً أساسية في مسار لوميت الإبداعي، من ناحية قدرته المدهشة على إدارة الممثلين، كما من ناحية قوته التقنية، ناهيك بتميزه بخاصة في أفلامه التي اقتبسها من المسرح (ومنها أعمال لأستاذيه آرثر ميلر ويوجين أونيل، اللذين «استعار» منهما بعض الثيمات الرئيسة، مثل التفكك العائلي، وحتمية فشل الحلم الأميركي والصراع بين الآباء والأبناء، وفكرة التوبة والغفران، والشعور بالذنب... ولعل من اللافت هنا حقاً أن يلاحظ من يشاهد آخر أفلام لوميت، «قبل أن يعرف الشيطان أنك متّ»، كيف ان الرجل جمع كل هذه «الثيمات» معاً، في فيلم أخير بات يمكن اليوم اعتباره وصيته الفنية والفكرية في آن معاً). بعد «12 رجلاً غاضباً» واصل لوميت طريقه السينمائي، ولكن في البداية، في تأرجح حقيقي بين المسرح والسينما، وغالباً عبر لغات فنية اختزالية، استقاها من تجاربه التلفزيونية. وإذا كان من الصعب للذاكرة أن تحتفظ بكل ما حققه لوميت في سنواته الأولى، فإن في الإمكان - في المقابل - ذكر أعمال لا تزال حية الى الآن مثل «النوع الذي يهرب» من بطولة مارلون براندو وجوان وودوورد (من ينسى يا ترى هنا سترة براندو ودراجته النارية؟). ولوميت بعدما حقق عملين مسرحيين («منظر من الجسر» لميلر، و «رحلة النهار الطويلة الى الليل» لأونيل)، عاد الى السينما المباشرة في فيلم يقارب كثر بينه وبين رائعة ستانلي كوبريك «دكتور سترنيجلاف» وهو «النقطة الفاصلة» (1964) الذي سخر فيه من السلاح النووي في عز الحرب الباردة. وهو زار الحرب أيضاً في فيلم تالٍ له هو «التلّ»، غير انه سرعان ما عاد الى الواقع الاجتماعي متفرساً في الحلم الأميركي، انما نسائياً في «المجموعة» الذي يتميز، في زمنه (1966) بجرأة نادرة من خلال تفحصه مصائر ثماني رفيقات تخرجن من واحدة من أفخم المدارس النسائية الأميركية. اثر «المجموعة» ونجاحه راح لوميت يحقق فيلماً في العام تقريباً، وراحت أفلامه تحقق نجاحات لا بأس بها، من دون أن تفوته ضرورة الإطلال على الواقع السياسي المباشر (حقق في عام 1969، شراكة مع جوزف مانكفيتش فيلماً بات شهيراً عن مارتن لوثر كنغ). وهو اثر هذا بدأ سلسلة أفلامه التشويقية، عبر أعمال مثل «شرائط اندرسن» و «لعبة الشيطان» و «الإهانة» قبل أن يصل عام 1973، الى تحقيق واحد من أهم أفلامه «سربيكو»، مع آل باتشينو، والذي عمّق فيه إدانته الممارسات البوليسية والفساد في دوائر الشرطة (وهو ما كان بدأه، انما على صعيد أكثر فردية، في «الإهانة»، ذلك الفيلم الأسود، والذي كان في الوقت نفسه إشارة الى الفشل، كمصير إنساني حتمي). والفشل هو سمة أساسية من سمات «سربيكو» يتصف بالتضاد التام مع النهايات الهوليوودية السعيدة. وهو الفشل نفسه الذي سنجده بعد «سربيكو» بسنتين في «بعد ظهر يوم كلب» (1975)، المتحدث عن محاولة لسرقة مصرف تنتهي الى مجزرة... في عملية كانت أصلاً محكومة بالفشل. (الموضوع نفسه الذي سيعود اليه في آخر أفلامه). ولسوف يكون لافتاً ان لوميت، الذي عرج في «بعد ظهر يوم كلب» على الدور الطفيلي، المفسد للإعلام التلفزيوني في المجتمع سيكرس فيلمه التالي «نتوورك» كله لهذا الموضوع. ولسوف يكون هو، في عام 1976 عام تحقيق هذا الفيلم، من أول الذين استخدموا الشاشة الكبيرة لإدانة إفراطات أختها الصغيرة، في عمل لا يزال مرجعاً أساسياً في هذا المجال حتى اليوم. آخر الحكواتية والحقيقة ان «نتوورك» أمّن للوميت مكانة كبيرة في السينما الحديثة، مكانة سيعززها الكثير من أفلامة التالية، والتي عاود يحوّم فيها حول موضوعات وأفكار مشابهة، من «أمير المدينة» (1981) الى «فخ الموت» ف «الحكم» (1982)، وصولاً الى الدنو من مفهوم السلطة العليا نفسه، مثلاً في «السلطة» (1986)، علماً بأن تناوله السلطة مباشرة في هذا الفيلم تأتي تتويجاً لتناوله لها، مواربة، في أفلام أخرى قد تكون تشويقية أو حتى كوميدية، أو في شكل رمزي. ذلك ان سدني لوميت كان، وبقي حتى آخر أيامه الأخيرة، مخرجاً يتفرس في زمنه وفي تقلبات هذا الزمن سواء اتخذت أفلامه سمة مباشرة أو غير مباشرة، فهو، بعد كل شيء، كان مثل الحكواتية المنتمين الى أزمان ماضية: يروي، يسلّي ويعلّم في الوقت نفسه. ويعرف ان سينماه لن تكون فعالة إن لم تصل الى الجمهور العريض. ترى أولسنا حين نقول هذا، نبدو كمن يصف، ليس فقط سينما سدني لوميت، بل أيضاًَ سينما زملائه من أبناء هذا الجيل، الذي - حتى وإن كان يكرّم في كل المناسبات، ويذكر عند الرحيل بأطيب الكلمات، ظل - إعلامياًَ - مهمشاً، لمصلحة أجيال سابقة - توصف بأجيال العمالقة - وكذلك لمصلحة أجيال لاحقة - توصف بأجيال التثوير؟