يمكن التأريخ للشرق الأوسط الحديث بصراع الضابط والشيخ. فإذا كان التأريخ على هذا النحو لا يستنفد تاريخ المنطقة، وما من تأريخ يستنفد تاريخاً، إلاّ أنّه يصف أحد أبرز وجوهه وأكثره فعلاً. فجمال عبدالناصر وحافظ الأسد وزين العابدين بن علي استهلكوا الكثير من الطاقة والوقت وهم يكافحون الإخوان المسلمين الذين، بدورهم، استهلكوا طاقة ووقتاً مماثلين وهم يكافحون الضبّاط الرؤساء. ذاك أنّ الضابط نظر إلى الشيخ بوصفه بديله الوحيد المحتمل، فحاول أن يستعير شيئاً من إسلامه ويدمجه في نظامه العسكريّ، علّه يقطع الطريق على إسلام الإسلاميّين. والأخيرون امتلكوا الحداثة التنظيميّة التي تمتلكها الجيوش وأنشأوا مجتمعات مضادّة تبزّ مجتمعات الضبّاط صرامةً ومراتبيّةً وضبطاً. والاثنان تأثّرا، كلّ بطريقته، بالقوى والأفكار الاستبداديّة لأوروبا الثلاثينات، أي أوروبا غير الأوروبيّة، الفاشيّ منها والستالينيّ. لكنّ واحدهما لم يقوَ على إلحاق الهزيمة بالآخر إلاّ حين تجاوزه في العداء للغرب والغريب ولتجسيدهما الأكثر استفزازاً، دولة إسرائيل. ف «العداء للاستعمار والصهيونيّة» كان قاطرة عبدالناصر إلى مجد شعبيّ همّش به الإخوان المسلمين وعزلهم. أمّا في طور أفول الدولة العسكريّة، مع أواسط السبعينات، فبدأ الشيخ يعيّر الضابط بالتواطؤ مع الأجنبيّ، وأحياناً بالإذعان له، وفي أحسن الأحوال بالنقص في جذريّة المقاومة التي يبديها. وإذا كان الشيخ اليوم يتحالف مع «الحرّيّة» ضدّ الضابط ودولته، فقد سبق للضبّاط العرب، أسلاف ضبّاطنا اليوم، أن ثاروا على الدولة العثمانيّة، المشيخيّة والإسلاميّة، باسم الحرّيّة ذاتها. حدث هذا في 1916، مع «الثورة العربيّة الكبرى»، ثمّ استعادت سيرته الانقلابات العسكريّة كما أسّسها العراقيّ بكر صدقي في 1936 والسوريّ حسني الزعيم في 1949، قبل أن يتوّجها جمال عبدالناصر في 1952. صحيحٌ أنّ الذين أطاحتهم انقلابات ما بعد الحرب العالميّة الثانية لم يكونوا مشايخ ولا إسلاميّين، بيد أنّهم كانوا أعياناً يبحثون عن تسويغهم لدى المشايخ وعن قواعدهم الشعبيّة في صلوات الجمعة. غير أنّ هذين القطبين، المتناقضين نظريّاً، الضابط والشيخ، لا يفعل واحدهما سوى التمهيد للآخر: الضابط يقمع ويخيف فيتحوّل المسجد مكاناً وحيداً لطلب الحرّيّة كما يتحوّل الإخوانيّ ضحيّةً ورمزاً للألم دفاعاً عن الحقّ، وتالياً للأمل بالمستقبل. والإخوانيّ يخيف من لا يقعون في دائرته أو في دينه، فيتحوّل الضابط، في نظرهم، شرطاً خلاصيّاً للحاضر وللمستقبل. وهذه حلقة مفرغة في تاريخنا الحديث لم يستطع أحد، قبل شبّان الفايسبوك وتويتر ويوتيوب، أن يتصدّى لها من قبل. اليساريّون حاولوا التصدّي كما حاولته النُوى البورجوازيّة والليبراليّة التي بالكاد نبت لها، في تربتنا، ريش. أمّا الأوّلون فكانوا في لحظات الحسم ينحازون إلى الضابط، وأحياناً إلى الشيخ. وأمّا الأخيرون فكانوا يمكثون في بيوتهم حيث يهرمون، أو يهجرون بلدانهم جملة وتفصيلاً ليصيروا مهاجرين بيضاً. شبّان الفايسبوك وتويتر ويوتيوب هم الذين وعدوا بكسر الحلقة المفرغة. هم الذين قالوا إنّ مجتمعاتنا يمكن أن تنتج شيئاً آخر غير الضابط والشيخ، وغير القوميّة نهرب منها إلى الدين، والدين نهرب منه إلى القوميّة، وغير المزاودة الدائرة بينهما في كراهية الغرب والغريب. وبغضّ النظر عن فرص النجاح والفشل، يُسجّل لهؤلاء أنّهم أصحاب المبادرة وأهل «المرّة الأولى». وهذا فضلاً عن كونهم الطرف الوحيد الذي يعكس التماسّ مع التاريخ والتحوّل والعالم: فهم تعريفاً أبناء التغيير المسمّى عولمة، فيما الشيخ والضابط ابنا ذاك الموت الآتي من ماضٍ بارد لم يعد يملك ما يقوله للحاضر إلاّ التكرار واجترار المجترّ.