في الحلقة الخاصة بمصر ذهب البرنامج التلفزيوني الفرنسي «شفرة الملابس» الى شقة المخرج يسري نصر الله، المطلة على نهر النيل، في محاولة للتعرف من خلاله الى المتغيرات التي طرأت على نوعية وشكل الأزياء التي يرتديها المصريون اليوم، وما إذا كانت تحمل في داخلها مدلولات أو «شفرات» تعبر عن مواقف اجتماعية وأخلاقية معينة. راقب المخرج بعين سينمائية حساسة ظاهرة انتشار ارتداء الحجاب بين النساء في السنوات الأخيرة عبر شرفة شقته المطلة على شارع محاذٍ للنهر، ووجد أن تعبيراتها المصرية مختلفة عن تماهياتها المباشرة مع بعدها الديني، حين أشار الى إحدى الشابات العابرات وكانت ترتدي حجاباً وقميصاً زهريين، ما اعتبره «مثيراً للاهتمام كونه يبعد الحجاب عن مسايرته لألوانه التقليدية الغالبة والمائلة الى البني والبيج، وأن المرأة المصرية تجمع بين الحجاب والبحث عن الجمال عبر اختياراتها الحديثة لبقية الملابس التي ترتديها». ومع هذا يظل، كما يرى البرنامج، في حرص الرجال على ارتداء النساء للحجاب هدف اجتماعي اقتصادي ذكوري يسعون من خلاله لفرض سيطرتهم على المرأة والحد من نشاطها الحياتي بخاصة في مجال العمل الذي يخيف الكثير منهم، مثلما يخيفهم حضور المصرية السفور والعصرية الملابس في الحياة العامة، ولذلك يسعون دوماً الى ربط ارتداء الزي الغربي بسوء أخلاق المرأة! غير أن رد فعل غالبية النساء المصريات جاء معاكساً إذ أسسن لمعادلة جديدة «مختلطة» مفادها: ارتداء الحجاب، التحرك بحرية والعمل بجد! غير أن تطبيقات المعادلة تظل متباينة بين مكان وآخر، فطالبات المدارس الدينية يتلقين تعليماً يربط «الحشمة» بالسلوك الديني مع تشجيع من المعلمات على ارتداء «النقاب»، فيما ظلت «الجلابية» زياً تقليدياً في الريف المصري. والمفارقة أن غالبية الرجال يرتدون الزي الغربي وبخاصة في القاهرة من دون التفكير بمصدره ولا في مدلولاته! «شفرات الملابس» كثيرة ولا تقتصر على شعب واحد لهذا ذهب البرنامج، الذي ضم 16 حلقة بثها التلفزيون السويدي ضمن «وثائقي من الخارج»، الى دول كثيرة بينها تايلاند، الصين، فنزويلا، جنوب أفريقيا وإيران في محاولة منه لمعرفة ما الذي تبطنه الملابس في داخلها ومدى تأثير السياسة والموروث الديني والعرقي عليها. فالصينيون ومنذ تولى الماويون إدارة البلاد أَجبروا الناس على ارتداء «زي موحد» للرجال والنساء ولم يعرف أهل البلاد الموضة الغربية إلا في السنوات الأخيرة وبعد انتهاء تأثيرات «الثورة الثقافية» فيها. وفي كوريا الجنوبية فهمنا كيف قررت الكونفوشيوسية بصورة ما ملابس الكوريين الجنوبيين التقليدية. وفي الجانب الآخر من كرتنا الأرضية لمسنا تأثيرات موقع بنما ومضيقها في التنوع المدهش لأزياء سكانها. وفي الحلقة الخاصة بإيران أدركنا حقيقة تطبيقات إلزام لبس الحجاب على أرض الواقع وكيف تحول الى فعل مربك للدولة التي عجزت عن فرضه كما أوصت «ثورة الخميني» وقبلت دونه بالتزام شكلي يجنبها مواجهة «ثورة نسوية» قد تنشب في أي لحظة، والسير في شوارع طهران، وبخاصة في المناطق الشمالية منها يظهر تعمد الفتيات الإيرانيات التخلص من الزي الإلزامي بطرق بارعة يعجز غير ابن البلد عن فهمها كونها تحمل بعداً احتجاجياً متستراً كما قالت الصحافية فرزانة روستي: «إنه نوع من الاحتجاج السياسي ومعارضة للسلطة تستغل النساء فيه ضعف موقف الحكومة من الحجاب كونه لم يسن وينظم بقوانين واضحة تحدد شكله وطريقة ارتدائه ولهذا يظل التلاعب به ممكناً». إنه تعبير عن فوضى التدخل في حياة الناس الشخصية، وتفسيراتها المضحكة، كما جاء في حديث رجل الأعمال محمد أحمدي مع معد البرنامج حين سأله عن أسباب امتناع الرجال في إيران عن لبس ربطة العنق وبخاصة السياسيين، فكان جوابه: «ربطة العنق رمز للديموقراطية الغربية ومن يرتديها هنا يعبر من خلالها عن إعجابه بالوجود الغربي في إيران!». ويبدو أن قوانين الملابس وتأثيرات السياسة واضحة فيها منذ عهد الشاه حين فرض عام 1936 وضمن سياسة «تحديث البلاد» قراراً أجبر فيه الرجال جميعاً على لبس قبعة رأس غربية وفي الوقت ذاته، منع النساء من ارتداء الزي التقليدي المسمى ب «التشادر»، ما عرّض الرافضات له لملاحقة رجال الشرطة، خالقاً ذلك عندهن ردود فعل سلبية تشبه ردود الفعل التي تولدها اليوم قوانين فرض زي «الثورة الإسلامية» على المرأة الإيرانية. وفي المناطق القريبة من الساحل العربي، وبعيداً من طهران، تعبر ملابس سكانها عن انتمائهم الإثني والثقافي الى المنطقة العربية وبخاصة الخليجية منها، حيث نجد وبوضوح الرجال هناك يلبسون «الدشداشة» فيما النساء يضعن على وجوههن «القناع» الخليجي. وعن علاقة الموروث بالانتماء الوطني تعبر الأزياء الفلسطينية عن تشبث مرتديها بهويتهم، ومقاومتهم للاحتلال الإسرائيلي، فالرجال في القرى الصغيرة ما زالوا يلبسون الكوفية الفلسطينية والنساء الجلابية التقليدية. وحضور الزي الفلسطيني ملحوظ في كل المناطق وفي المدن الإسرائيلية الكبيرة التي يواجه فيها الفلسطينيون نظرة احتقار من الإسرائيليين، بسبب ملابسهم. والمقابلة مع نوال ووالدتها نسرين ريحان سلطت ضوءاً قوياً على ما تثيره الملابس من «شفرات» عدائية يشعر بها المتصارعون أكثر من غيرهم كما قالت نوال، ابنة مدينة يافا: «تصور نفسك، تدخل مقهى بزيك الوطني، ستواجه حتماً بنظرات عدائية ملؤها الحقد والكراهية». والأمر ينسحب بطريقة مختلفة على اليهود الشرقيين «الاشكناز» فمع كونهم ينتمون الى اليهودية فإنهم ما زالوا ملتزمين بأعرافهم وإرثهم، كما جاء في البرنامج حين نقل مقاطع من حفلة زفاف لمغاربة ظهروا فيها وهم يلبسون أزياءهم التقليدية، وكأنهم ما زالوا يعيشون حتى اللحظة في المغرب. قد يفسر كلام المخرج يسري نصر الله حول العلاقة بين الثقافة العامة والحياة الشخصية جزءاً من تمظهرات «شفرات الملابس». ففي الوقت الذي يقبل المصري مثلاً سلوكاً منفتحاً لا يميل الى التصريح عنه علناً، قدمت جولة كاميرا البرنامج في أحد أسواق القاهرة جزءاً من خفايا هذا السلوك، حين كشفت إحدى الموظفات في محل لبيع الملابس عن الطرق الغريبة والمبتكرة في إخفاء بعض «الملابس الخاصة» عن أنظار المارة. ومع وجود كل هذا الكم من خفايا الملابس إلا أن الناس لا تعلن عنه صراحة، وربما قد يشكل هذا جزءاً من أسرار «شفرة الملابس» العجيبة وطريقة كل شعب في التعبير عنها.