لاحظنا ونحن نتابع الثورات في البلدان العربية كيف ساهمت هذه الثورات في تعزيز اللحمة الوطنية حيث سمحت لكل الشرائح والأطياف والطبقات بالمشاركة فيها، ووفرت للجميع فرصة الالتقاء في منطقة في الوسط، الأمر الذي ساهم في تهذيب التطرف، وتقديم التنازلات، وتقريب الآخر، وتعزيز الاعتدال والوسطية. لاحظنا ذلك في تونس ومصر حيث تلاحم المصريون المسلمون والأقباط، وفي اليمن حيث تراجع الفرز القبلي والأصوات المنادية بالانفصال، والتحم الجميع وباتوا يشاركون في الثورة ويتسابقون في إنجاحها لتصل إلى بر الأمان. وفي الأردن حيث تقهقرت النعرة القبلية والعصبية بين أردني شرقي وغربي والتحم الجميع في التظاهرات والمطالب. وفي فلسطين استطاع الفلسطينيون أن يوجِدوا منطقة وسطية أو تياراً وسطياً يبتعد عن حماس وفتح ويقرّب بينهما في الوقت ذاته. وفي البحرين كذلك كانت بعض الشعارات المرفوعة متطرفة في البداية، لكنها جنحت إلى الوسطية والاعتدال لاحقاً. ساهمت الاعتصامات الشعبية في لقاء الناس من مختلف الشرائح والخلفيات والانتماءات في الميادين والساحات لأيام وأسابيع، وجعلتهم يجلسون ويتحاورون ويأكلون ويشربون وينامون ويغنون ويُصابون ويُقتلون ويتألمون ويتعاونون ويحلمون ويمشون ويعيشون، الأمر الذي أدى إلى تعزيز مهارة الاستماع ولغة الحوار، وتمتين اللحمة المجتمعية التي ستشكل رافداً قوياً للحياة الاجتماعية والسياسية بعد انتصار الثورة. لذا، نحن على ثقة بأن الانتفاضات والثورات الجارية الآن على نار هادئة أو متقطعة في بلدان عربية تتميز بالتنوع العرقي و/أو الطائفي، ستؤدي إلى قيام مجتمعات معتدلة وقوية لأن التنوع قوة ورحمة، والحوار كذلك. الناس العاديون بطبعهم لا يميزون ولا يكترثون بعرق أو طائفة الآخر وهم يتعايشون ويتحاورون ويتجاورون يومياً منذ مئات السنين، وسيكتشفون أن الحكام والسياسيين بعد خلعهم هم من فعل ويفعل ذلك. هكذا فعل مبارك بين المسلمين والأقباط، وزين العابدين وهو يلوّح بخطر سيطرة «الإرهابيين» الإسلاميين، والقذافي وهو يهدد بالانقسام القبلي والقاعدة، وعلي عبدالله صالح وهو يهدد بالحوثيين والقاعدة والانفصال الخ... الثورة جنين شعب شارك الكل في إنجابه وسيشارك قطعاً في تربيته، ولهذا ترى الكل يحنو ويعتني برفق ليحافظ على هذا المولود الذي جاء بمخاض عسير وأحياناً بعد عملية قيصرية دامية، ويتحمل الجميع مسؤوليته والعناية به. فها أنت ترى المصريين والتونسيين واليمنيين يتصرفون بمسؤولية عالية وهم يشعرون في الوقت ذاته بزهو كبير بهذا المولود الجميل، ويحاولون قدر استطاعتهم توفير بيئة وظروف صحية مناسبة ليكبر ويكبروا معه! الثورة اكتشاف جديد للذات! الثورة تشحن وتلهم الأمم، وتفجر الطاقات، وتقرب الأفراد والمسافات، وترفع درجة المسؤولية لدى الأفراد والجماعات، وتعزز القيم الايجابية في المجتمعات.