من أصعب المواقف التي تواجه المراقب العادي المواكِب لتطوّرات المنطقة المتسارعة الى حدّ الذهول، الاختيار بين معمّر القذافي وقوّات التحالف الغربي. إذ لا يمكن الدفاع عن «رئيس طرابلس الغرب» بأي شكل من الأشكال، وفي المقابل لا يمكن تأييد مسارعة قوّات حلف الأطلسي المتدخل للتخلّص من حكم القذافي عن طريق القصف الجويّ المتلاحق منذ نشوب «الأزمة» وحتى كتابة هذه السطور. وحول ما يجري في المنطقة العديد من المواقف ومن التأملات يمكن إيجازها بالنقاط الرئيسية التالية: أولاً: لدى اندلاع معركة التخلّص من حكم معمّر القذافي سارع الرئيس الأميركي باراك أوباما الى الإعلان عن ضرورة رحيل – أو ترحيل القذافي، وأجرى لهذه الغاية العديد من الاتصالات والمشاورات مع زعماء التحالف الغربي، وجرى التداول في كيفية تنظيم الحملة العسكرية لإنجاز هذه المهمّة والعمل على «اقتلاع الرئيس الليبي من جذوره». لكن ومع مرور الوقت أدرك أوباما مدى خطورة إقدامه على إعطاء الأوامر للقوات الأميركية بالتدخل المباشر. ذلك أن «لعنة العراق» بالنسبة للرئيس جورج دبليو بوش، وغزو العراق وإسقاط حكم صدام حسين، لا تزال ماثلة في أذهان الشعب الأميركي بحزبيه الديموقراطي والجمهوري والهزيمة التي مُنيت بها القوات الأميركية في هذه الحرب. وحتى لا تصبح «لعنة ليبيا» ملازمة لحكم أوباما فقد عمد الى «تجيير» هذه المهمة الى دول حلف شمال الأطلسي وهذا ما يحدث ولا يزال يحدث لفترة غير محدّدة، لأن تجارب الأيام والأسابيع القليلة الماضية كشفت صعوبة إنهاء حكم القذافي بتكثيف الطلعات الجويّة فقط، وهذا ما أوقع قوّات التحالف في حالة من الإرباك. وقد بدا جلياً خلال مؤتمر لندن الذي عقد لتقويم التدخل المباشر في ليبيا. إن ما كان متوقعاً أن يحدث خلال أيام يحتاج الى شهور عدة، لذا بدأ الحديث عن ضرورة البحث عن «حل سياسي» للمأزق في ليبيا. إذاً هل تمّ التسرّع والتورط عسكرياً؟ ثانياً: على رغم انقضاء هذا الوقت من دون القضاء على معمّر القذافي هذا يعني أن رحيل الرئيس الليبي سيكون عملية باهظة التكاليف، مما يؤشر الى قيام حرب استنزاف بين قوى دول حلف الأطلسي والقوات التي لا تزال تحت امرة القذافي. وبإمكان عقيد ليبيا أن يزعم وأن يدعي أنه يواجه العالم بأسره في معركة التنازع على البقاء وعلى قيد الحياة وعلى الحكم والتحكم بقسم من الجماهيرية حتى آخر ليبي وآخر ليبيّة وآخر المرتزقة الذين استأجرهم النظام للدفاع عن «عرشه» والسؤال هنا: مَن ورّط مَن؟ القذافي أم قوات التحالف الغربي؟ وكان السبب المعلن للتدخل العسكري الغربي الدفاع عن الشعب الليبي بوجه «الطاغية» لكن مَن يسقط حالياً هم أفراد من هذا الشعب المسحوق بين ضربات ما تبقى لقذافي ليبيا من قوّات والقصف الجويّ لطائرات حلف شمال الأطلسي. ثالثاً: استعادت الولاياتالمتحدة الأميركية الاضطلاع بدور «شرطي المنطقة» منذ انطلاق الانتفاضات الشعبيّة وأكثر تحديداً في مصر وليبيا حيث كان الرئيس أوباما يسارع الى توجيه الإنذار تلو الآخر لضرورة رحيل حسني مبارك ومعمّر القذافي. وبقطع النظر عمّا يسمّى ب «نظرية المؤامرة»، فإن ما يجري يقضي على ما تبقى من الكرامة لدى هذا النظام العربي أو ذاك. واستناداً الى هذا المُعطى فإن واشنطن منهمكة هذه الأيام في عملية استبدال بعض الزعماء العرب، بزعماء آخرين «أكثر ملاءمة للتوجّهات الأميركية». لكن المفارقة الفاقعة أن أميركا كانت هي التي تبنّت ودافعت عن هذه الأنظمة لترتيب مصالحها في المنطقة، وها هي الآن أوّل الداعين الى التخلي عن هذا الزعيم أو ذاك. وعليه يمكن طرح السؤال: ما الذي يمنع إقدام البيت الأبيض على إجراء «المناقلات والتعيينات» بين عدد من الدول العربية؟ وفي السياق نفسه نشير الى المقال الذي نُشر في هذه الصفحة بالذات بقلم مساعد وزيرة الخارجية الأميركية وليام بيرنز والذي حدّد فيه الاستراتيجية الأميركية في شرق أوسط جديد. وما يلفت في المقال تقديم التصوّر الآتي: «إن التصوّر الذي استحوذ لفترة طويلة على عقول الكثير من القادة العرب يتمثل بوجود خيار بين سياسيين فقط أولهما الحكّام المستبدون وثانيهما المتطرّفون الإسلاميون. وتكمن الحقيقة في هذا الصدد في كون الكثير منّا، إن لم يكن معظمنا من شارك في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط إبّان العقود الأخيرة قد وقع ضحية هذا التصوّر وقد رصدنا الجمرات التي تراكمت في المنطقة والمزيج القابل للاشتعال من أنظمة متقلّبة وفساد ونفور ومعاملات مهينة، وقد حاولنا أن نلفت انتباه قيادات المنطقة الى هذه المخاوف لكننا لم نبذل أبداً جهوداً كافية، لذا نحن نعتبر أن من الجيّد أن نتسلّح ببعض التواضع مع مشارفتنا على دخول هذا العصر الجديد». ومن المفيد أن نرى أن الولاياتالمتحدة تجري مراجعة الى حدّ النقد الذاتي لممارساتها الخاطئة في المنطقة. والأهم من ذلك رؤية مواقف جديدة للسياسات الأميركية تأخذ طريقها الى حيّز التنفيذ. رابعاً: في خضم زحمة الثورات والانتفاضات في طول المنطقة وعرضها نؤكّد على الحقيقة الراسخة وهي أن عام 2011 هو عام المتغيّرات الجذرية ومرحلة انعطاف تاريخي يُثبت أن المنطقة بكاملها لن تكون في الآتي من السنين كما كانت عليه مع بداية الصحوات والانتفاضات والثورات الشعبية التي كرّست واقعاً جديداً يتمثل بقيام الشرعية المدنية بديلاً عن السلطات العسكرية الانقلابية. وهذا ما يُحتّم إجراء قراءة جادة وفي العمق لهذه الأحداث والتداعيات التي ستُسفر عنها. واستناداً الى كل ما تقدّم وما سيحدث لاحقاً يؤكد قرينة واضحة وهي أن النظام العربي انتهت صلاحيته وسقط مضرّجاً بدماء مَن ذهبوا ضحية بعض هذه الأنظمة، ومن تعرّضوا للكبت والحرمان من أبسط حقوق المواطنية في التعبير عن حرية الرأي. وتبقى الإشارة الى أننا سنعايش مرحلة انتقالية بين حكم سقط وآخر هو في طور التكوين. * كاتب وإعلامي لبناني