تبدو الجادة البحرية التي «تلف» العاصمة الأذربيجانية باكو في ما يشبه رأساً يغوص في مياه بحر قزوين ويعبّ منها، إنها كورنيش الأبراج والمتنزهات. مبانٍ عصرية شاهقة وحدائق غناء أينما تجولّت، تحفّزّ المارة والمتنزهين. وهذا المشهد لا يبدو مختلفاً كلما اتجهت صوب الداخل، حيث أحياء أوروبية الطابع من ناحية المباني المتأنقة بواجهاتها والأشجار، والعمارة التقليدية الزاخرة بزخارف حجرية ومعدنية مُبرزة فناً راقياً وذوقاً رفيعاً. تكثر الأنصبة والتماثيل ومقار حكومية وفنية وثقافية، منها «مركز حيدر علييف الثقافي» الذي صممته المعمارية العراقية زها حديد. هكذا تبدو باكو (2.5 مليون نسمة) بجانبها العصري على الأقل، مثالاً يحتذى في التخطيط والتنظيم المدنيين. فقد سابقت الريح والصوت في سرعة التغيير ورسم آفاق جديدة منذ استقلال أذربيجان عن الاتحاد السوفياتي قبل 25 عاماً. إنها مدينة تنشد النمط الأوروبي، سعياً لأن تظللها «قارة العالم القديم» قلباً وقالباً. تجتهد لذلك من خلال فعاليات وأنشطة اقتصادية وفنية وثقافية ورياضية منها استضافة دورة الألعاب الأوروبية الأولى عام 2015. وقد أرادتها جسراً لهذا العبور وتكريس هذه الهوية من دون إغفال الجذور. أذربيجان «أرض النار» تحبباً، بما تختزنه من ثروات نفطية، وعاصمتها باكو بأبراجها الثلاثة على شكل لهب (أبراج الشعلة) تجسّد ذلك، فضلاً عن «عملقة» في معالم ودور تذكّر بما هو قائم في بلدان خليجية. باكو بالأذربيجانيَّة Bakı هي أكبر المدن الساحلية في بحر قزوين وكامل إقليم القوقاز. وتقع تحديداً على الشاطئ الجنوبي لشبه جزيرة آبشوران، وتتألَّف من قسمين رئيسيين: وسط البلد والمدينة القديمة المسوَّرة البالغة مساحتها 21.5 هكتار مربّع. وهي مدينةٌ واطئة، تنخفض عن سطح البحر بنحو 28 متراً، وجغرافيتها متطرفة، إذ تجاورها براكين طينية وبحيرات مالحة. احتلَّت باكو مكانة مرموقة منذ القِدم وزادت أهميتها كمركز اقتصادي إقليمي بعد أن استخرج النفط فيها للمرة الأولى في عام 1847، بالطرق الاصطناعية. وفي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أصبحت أذربيجان من أكثر البلدان إنتاجاً للنفط في العالم، حيث كان 50 في المئة من الإنتاج النفطي العالمي يُستخرج في باكو. مدينة متمازجة الثقافة، فهي من ناحية مدينة ذات طابع أوروبي غربي، ومن ناحية أخرى مدينة ذات طابع إسلامي شرقي. وأبرز ما يدل على ذلك هو طرز العمارة المتنوِّعة، فالمباني العائدة للعهد الروسي يطغى عليها الطراز الأوروبي، وتلك القديمة يغلب عليها الطابع الإسلامي. الحارات القديمة مسوّرة ضيِّقة تشبه حارات كثيرة في مدن عربية وإسلامية شرقية، وقصورها مُزيّنة ومزخرفة بنقوش وآيات قرآنية. وقد عانى أهل المدينة، كما باقي سكَّان أذربيجان، من طمس الهوية الإسلامية خلال العهد السوفياتي. «باد-کوبه» يُعتقد أن الاسم «باكو» مُشتق من كلمة فارسيَّة قديمة هي «باد-کوبه»، وتعني «ريح منضربة» وبالتالي يُقصد بها «المدينة التي تضربها الرياح»، حيث أنَّ باد تعني ريح وکوبه مُشتقة من الفعل «کوبيدن» بمعنى «يضرب»، وبهذا فإن الاسم يشير إلى موقع الرياح العاتية على ساحل بحر قزوين. ويبدو أن هذا أصل التسمية هو الأرجح، إذ أن باكو تشتهر بعواصفها الثلجية العنيفة ورياحها العاتية. يُعتقد أيضاً أن اسم المدينة مشتق من «باغ كوه» أو «بغكوه»، بمعنى «جبل الله»، حيث أن باغ وكوه بالفارسية القديمة تعنيان «إله» أو «رب» و «جبل» على التوالي. يُلاحظ كذلك بعض الشبه بين تسمية «بغكوه» و «بغداد» هبة الله، حيث أن كلمة داد هي الكلمة الفارسية القديمة التي تعني «يهب» أو «يعطي». كما تفيد نظرية أن الاسم مُشتق من الاسم الألباني القوقازي القديم للمدينة، وهو «باكوان». وكشفت دراسات أن منطقة آبشوران بما فيها مدينة باكو المعاصرة كانت عبارة عن سفناء مأهولة بالحياة البرية الحيوانية والنباتية منذ نحو 100 ألف سنة، وأن أقدم استيطان بشري للمنطقة يعود إلى العصر الحجري. وتشتهر باكو بكونها مدينة عاصفة، تضربها الرياح العاتية طيلة أيام السنة، وهي تُقسم إلى نوعين: الرياح البحرية الشمالية الباردة، وتُعرف باسم «الرياح الخزرية» والجنوبية الدافئة المعروفة باسم «الرياح الكيلافارية». ويتسبب النوع الأول منها بعواصف ثلجية عنيفة طيلة الشتاء. الهوية أصبحت باكو عاصمة جمهورية أذربيجان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وقد غيّر المجلس البلدي الأول أسماء مناطق كثيرة من أسماء روسية إلى أذربيجانية ذات أصول محلية أو فارسية أو عربية. ومع بداية القرن ال21، أخذت بلدية باكو تعيد إنشاء هوية المدينة الأصلية التي كادت الشيوعية أن تقضي عليها، فهدمت آلاف المباني العائدة للعهد السوفياتي وأنشأت حزاماً أخضر من المتنزهات والحدائق داخل المدينة وعلى أطرافها، وطورت المرافق الخدماتية الضرورية من صرف صحي وتنظيفات وتخطيط مُدني، حتى أصبحت باكو تضاهي مدن أوروبا الغربية من هذه الناحية. كما تنامت ظاهرة زيادة عدد المساجد الجديدة التي شيِّدت بالتعاون مع تركيا في أحيان كثيرة، في محاولة لإحياء التراث الإسلامي للمدينة. تعتبر جادة باكو أحد أبرز متنزهات المشاة في المدينة، وهي تمتد بمحاذاة واجهتها البحرية. تضم متنزهاً ترفيهياً، ونادياً لليخوت، ونافورة موسيقية، وتماثيل، ونصباً تذكارية. ويقع مركز المقام الدولي الأذربيجاني بالقرب من هذا المتنزه. أما أبرز المتنزهات والحدائق الأخرى، فهي: متنزه حيدر علييف، ومتنزه صمد وركون، ومتنزه ناريمانوف، ورواق الشرف، وساحة النوافير، وممر الشهداء، الذي كان يُعرف باسم متنزه كيروف. الجولة القصيرة وسط هذا التنّوع تثير فيك الفضول للاكتشاف والإطلاع. فلا بدّ أن تعرّج على ساحة النوافير في وسط المدينة، وشاطئ ألف ليلة وليلة، وشاطئ شيخوف، وبلدة صخور النفط. أما المناطق السياحيَّة المجاورة لباكو فتضم: جبل النار أو ينار داغ بالأذربيجانيَّة. وهو موقع ينبعث منه الغاز المشتعل على الدوام. وبتاريخ 2 أيلول (سبتمبر) 2010، أصبحت باكو موطن أكبر سارية علم في العالم وفق موسوعة «غينيس» للأرقام القياسيَّة، بعد افتتاح ساحة علم البلاد أو ميدان بيرق الدولة. أما برج التلفاز الباكوي فمخصص للبث التلفزيوني واللاسلكي. وقد شُيِّد في عام 1996 ويصل ارتفاعه إلى 310 أمتار، ليكون أطول المنشآت العمرانية في المدينة. وكانت وزارة الاتصالات السوفياتية أطلقت هذا المشروع في عام 1979، على أن ينجز بعد ستة أعوام. لكن العمل توقَّف إلى أن أستؤنف عام 1993 في عهد الرئيس حيدر علييف واستكملت الورشة بعد ثلاثة أعوام. وأفتتح مطعم دوّار في الطابق ال62 عام 2008، على علو 175 متراً. تنوّع ومعالم راسخة يُلاحظ أن نمط العمارة في باكو متفاوت ومتنوّع، إذ يتدرّج من النمط الإسلامي الفارسي القديم في البلدة القديمة، إلى المباني الحديثة ومرفأ باكو فسيح التخطيط. وقد شُيِّدت أغلب مباني المدينة المُميَّزة خلال أوائل القرن الماضي، أي خلال الفترة التي دخلت خلالها عناصر معمارية أوروبية إلى البلاد للمرة الأولى، وامتزجت مع أخرى محلية مشكلة تركيبة فريدة. كما بدأت الأنماط المعمارية الحديثة المتأخرة وما بعد الحديثة بالظهور في باكو أواخر الماضي، مواكبة الازدهار الاقتصادي. وتبدو لافتة المباني ذات الواجهات الزجاجية، ومن أبرزها برج شركة النفط الوطنيَّة، وأبراج الشعلة. وشدّت المشاريع العمرانيَّة الجديدة انتباه وسائل الإعلام العالميَّة، فظهرت المدينة في برامج تلفزيونية شهيرة مثل برنامج «الهندسة المتطرفة» Extreme Engineering على قناة «ديسكفري»، الذي عرض التغييرات الجارية فيها. وتضمُّ باكو مراكز تسوّق كثيرة راقية وفروعاً لسلسلة متاجر عالميَّة. واحتلَّت المدينة المركز ال48 في لائحة أغلى مدن العالم لعام 2011. كما يُعدّ شارع نظامي الواقع في وسطها من أغلى شوارع مدن العالم. في المقابل، تبدو مدينة باكو القديمة، أو باكو المسوَّرة، كتلة معمارية واحدة متجانسة، فأغلب مبانيها الصامدة وسورها مبنيّ أو مُجدد خلال عهود الخلافات الإسلاميَّة، وقليل منها صامد منذ العهود السابقة للإسلام. وقد دُعّمت معظم الأسوار والأبراج في البلدة القديمة بُعيد الغزو الروسي عام 1806. ويُشكّل هذا القسم من المدينة لوحة تصويرية متنوعة الألوان، فالبلدة شرقيَّة الطراز بالمقام الأول: أحياؤها ضيِّقة تشكل متاهة لغير قاطنيها، وشوارعها مرصوفة بالحجارة والبلاط، وأبرز معالمها قصر الشروانشاهانيين، وخانين كاروانسرايين، وعدد من الحمامات، ومسجد الجمعة (الذي كان تحوَّل إلى معرض وطني للسجاد لفترة قبل أن يُعاد اعتماده كمسجد). وفي قلب البلدة القديمة أيضاً عشرات المساجد الصغيرة التي تفتقر إلى إشارات تدل عليها وعلى هويتها. وأدرجت منظمة ال «يونسكو» البلدة القديمة على قائمة مواقع التراث العالمي المهددة بالزوال عام 2003، بعد أن رصدت أضراراً كثيرة أصيبت بها مواقع بعد زلزال عام 2000. ويعتبر برج العذراء أو قلعة العذراء أشهر معالم المدينة. شيِّد خلال القرن الثاني عشر ليكون جزءاً من المنشآت الدفاعية، وقد أُضيف إلى لائحة مواقع التراث العالمي في عام 2001. كما يُعدّ أحد أشهر معالم أذربيجان على الإطلاق، ويظهر على بضع فئات من العملة الورقية والطوابع الرسمية. يضم البرج متحفًا تُعرض فيه قصة التطوّر التاريخي لباكو. وفي موسم النيروز من كل عام تضاء المجمَّرة الواقعة على سطحه طيلة ليالي الموسم. أما قصر الشروانشاهانيين في وسط المدينة فهو أكبر المعالم الباقية من العهد الشرواني. ويحوي المجمَّع أبنية من ضمنها: القصر الرئيسي والديوان وأضرحة الحكَّام ومسجد الشاه وضريح السيّد يحيى الباكوي وصهريج مائي وبقايا حمَّام. وشيّد مسجد باب الهيبة الأصلي خلال القرن الثالث عشر على يد الشروان شاه فروخ زاده الثاني. ويُعرف محلياً باسم «مسجد فاطمة»، ويُشاع أن إحدى بنات الإمام موسى الكاظم مدفونة فيه. ويُشكّل مزاراً لشيعة وسنَّة كثر في البلاد، يقصدون القبر للتبرّك والدعاء. وسراي السعادة أو قصر السعادة أو قصر مختاروف، هو قصر قديم أُنشئ بين العامين 1911 و1912، وكان مسكن المليونير الباكوي مرتضى مختاروف يهوديّ الأصل، شيّده إكراماً لزوجته ليزا. وصمم البناء المهندس البولندي الأصل جوزيف بولشكو. ووفقاً لمصادر، فإن مختاروف كان في رحلة هو وزوجته إلى العاصمة النمسوية فيينا، فشاهدا قصراً وأعجبا به وقررا إنشاء منزل لهما في مدينتهما الأم على هذا الطراز الغربي. ويستخدم حالياً قاعة لإقامة الأعراس والأفراح. هوس هتلر مع تولّي النازيّين الحكم في ألمانيا وبداية الحرب العالميَّة الثانية، استقطبت باكو انتباه الزعيم الألماني أدولف هتلر لغناها بالنفط ولموقعها الاستراتيجي. ويظهر أن القوى الغربية قلقت كثيراً من احتمال هيمنة النازيّين على باكو، إذ أبرق السفير الأميركي في باريس إلى حكومة بلاده عارضاً إمكان قصف باكو وتدميرها تدميراً كلياً، والتشاور مع الحكومة الفرنسيَّة في هذا الأمر. غير أن شارل ديغول عارض هذه الخطة بعناد وانتقدها بشدة معتبراً أنها «صادرة عن مجانين يرغبون في تدمير باكو بدلاً من مقاومة برلين». وفي 22 شباط (فبراير) 1940، رفع الفريق أول موريس كاملان تقريراً إلى رئيس الوزراء الفرنسي إدوار دلادييه جاء فيه، أن تدمير هذا الموقع الغني بالمواد الأولية من شأنه أن يحرم روسيا منها كما ألمانيا، وأنه يخشى من وقوع الروس في أزمة كبرى إن فقدوا تلك الموارد المهمة لصناعتهم العسكرية. عوض ذلك، لجأ الحلفاء إلى أسلوب آخر لحماية باكو من دون تدميرها، فأنشأوا 10 مناطق دفاعية تطوّق المدينة طيلة فترة المعارك الألمانية السوفياتية، للحيلولة دون أي غزو ألماني. وقد بلغ من شدة هوس هتلر بالمدينة أن صُنعت له كعكة مزيّنة بخريطة لبحر قزوين كُتبت عليها أحرف B-A-K-U بالشوكولاتة، وبعد أن تناولها قال: «سنخسر الحرب إن لم نحصل على نفط باكو».