من يقرأ العنوان سيدرك فوراً أن الفلسطيني من دون غيره هو المعني بهذه العبارة، فلا يوجد أحد غيره يحل به النحس وتكاد تطارده اللعنة أينما ذهب، لا لشيء إلا لكونه يحمل على كاهله عبء جنسيته الفلسطينية. فحقيقة الأمر أن قدراً كبيراً من المآسي التي تعرض لها الفلسطينيون عبر محطات نزوحهم التاريخية هي في أساسها ضريبة يدفعونها ثمناً لجنسيتهم الفلسطينية والتي تعني عند الكثير خوفاً وتوجساً وريبة. لذلك لا أدهش عندما أشاهد رموزاً وأحياناً نجوماً من شتى الميادين في مجتمعاتنا العربية، بل كذلك أناساً عاديين يتملصون من فلسطينيتهم وينكرونها من خلال جوازات سفر بجنسيات مختلفة يحملونها أو بتعمد إخفاء هويتهم بالتظاهر بأنهم من أصول أخرى، لدرجة أن بعضهم يكاد يصدق هذا الزيف الذي ألصقه بنفسه. الواحد من هؤلاء لديه قناعة بأن من الأسلم له عدم الإفصاح عن هويته خشية ضياع فرصة عمل أو حتى لا يسارع الآخرون باتخاذ موقف سلبي منه لمجرد كونه فلسطينياً، لأن هناك (في عالمنا) من يتوجسون من مجرد ذكر كلمة (فلسطيني)، وللأسف هؤلاء ليسوا قلة، وموقفهم يستفز فلسطينيين كثيرين فيصرون أكثر على التشبث بهويتهم الأم على رغم أن معظمهم يتمتعون بجنسيات أخرى، ومنهم من لم يشاهد فلسطين إلا في أحلامه. لكن، ماذا بالنسبة إلى الفريق الفلسطيني الآخر، أي أولئك الذين يتجنبون الإفصاح عن أصولهم؟ على رغم اختلافي مع أصحاب هذا المنطق إلا أن لكل إنسان فكره وإرادته، لا يملك أحد أن ينازعه فيهما، خصوصاً الفلسطيني، فهو نموذج للاستثناء لأنه يعبر عن حال متفردة. ولا أبالغ إن قلت إن الفلسطيني بحد ذاته هو الاستثناء نفسه، وأكاد أعتقد أن كلمه (استثناء) وجدت من أجله. لذلك أتفهم جيداً كيف يمكن لشخص أن يتوجس من أن يقبض عليه أحد متلبساً بفلسطينيته وكأنه متهم عليه أن يثبت براءته من دم ابن يعقوب. هذا المنطق أعارضه ولا أطرحه هنا كي أروج له كوسيلة ناجعة للهروب يمكن للفلسطيني أن ينتهجها أو خريطة طريق للخلاص عليه أن يسلكها. لكني أتناوله كأمر واقع له أتباعه ومريدوه، ويعكس حجم المخاوف لدى هؤلاء والتي بت الآن أتفهمها تماماً، بخاصة بعد التجربة التي عايشتها أخيراً، وذلك عندما وجدت نفسي مقحمة في شأن الفلسطينيين العالقين في ليبيا من الذين تكبدوا قدراً كبيراً من الشقاء فقط لكونهم فلسطينيين. أقول ذلك أيضاً انطلاقاً من شهادات لعشرات من الأسر النازحة عبر اتصالات هاتفية أجريتها معهم، وأكدوا لي خلالها مقتل فلسطينيين في مدينة بنغازي. وذكر آخرون على معبر السلوم أن هناك تعليمات واضحة وصريحة لرجال الأمن المصريين بعدم السماح بعبور الفلسطينيين. فيما أكدت مصادر أن هناك أكثر من 1500 فلسطيني عالقين على معبر السلوم لكنهم جميعاً جوبهوا واصطدموا بتعليمات مشددة تمنعهم من دخول الأراضي المصرية في طريقهم إلى غزة، ما اضطر الكثيرين للعودة إلى منازلهم في مدينتي بنغازي وطبرق معرضين أنفسهم وأسرهم وأطفالهم لمخاطر جمة، في ظل تواصل إطلاق النار العشوائي والكثيف. إلا أن هناك نحو 14 إلى 15 فلسطينياً على معبر السلوم رفضوا العودة إلى ليبيا، وأصروا على البقاء عند البوابة منتظرين الفرج، عبر تجاوز الإجراءات القانونية التي تتطلب أوراقاً رسمية كثيرة في ظروف استثنائية بشهادة الواقع. وهذا أمر مستبعد تماماً في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها مصر والضغط الهائل الذي تواجهه الأجهزة الأمنية المصرية. ومن بين الروايات والحكايات التي تنسجها ظروف الانتظار عند معبر السلوم ما قال لي القنصل الفلسطيني في الإسكندرية جمال الجمل والذي يشرف بنفسه ميدانياً على متابعة أحوال الفلسطينيين المعيشية على الحدود الليبية مع مصر، أن شاباً فلسطينياً يدعى حسين مصطفى من سكان مدينة العريش ولديه إقامة في مصر، جاء إلى مدينة السلوم للاطمئنان على أقاربه في قرية المساعد والتي تبعد نحو خمسة كيلومترات من معبر السلوم، وقال: إن حسين استأذن من الضابط المصري الدخول للسلام على أقاربه وبالفعل دخل وعندما أراد العودة لم تسمح له السلطات المصرية على معبر السلوم بالدخول إلى الأراضي المصرية مرة أخرى، على رغم أنه يحمل إقامة مصرية سارية فوقعت أزمة وتصاعدت، وهدد حسين بحرق نفسه، لكن الناس تجمهروا حوله ومنعوه، وأخيراً نجح في العودة إلى مصر. وضرب لي القنصل مثالاً آخر يجسد المعاناة التي يتجرعها هؤلاء ذاكراً قصة أسرة أردنية عالقة على الحدود لمجرد أن الأم تحمل وثيقة سفر فلسطينية، ويبدو أن الأب لم تشفع له جنسيته الأردنية وها هو يدفع ضريبة حظه العاثر الذي شاء له الاقتران بفلسطينية، لأن رب الأسرة (بالطبع) رفض مغادرة الأراضي الليبية من دون زوجته. وهناك أيضاً الأم المصرية التي عبرت هي مع أبنائها السلوم تاركة زوجها الفلسطيني وراءها. ويضيف الجمل: «هنالك نحو مئة فلسطيني موجودون في قرية المساعد. وهؤلاء لا يريدون العودة إلى منازلهم خشية تعرضهم للموت؛ بسبب تردي الأوضاع الأمنية، وفضلوا البقاء في ضيافة أسر ليبية بسيطة في انتظار فرج الله. ويؤكد الجمل أن ما يتعرض له الفلسطينيون يخصهم وحدهم من دون غيرهم من حاملي الجنسيات الأخرى، فهناك كما يقول الكثير من السريلانكيين على سبيل المثال لم يكونوا يحملون أية أوراق رسمية أو وثائق سفر، وعلى رغم ذلك عبروا من خلال اتصالات قام بها السفير السيرلانكي مع المسؤولين المصريين. والعالقون عند منفذ السلوم يعانون فوق ذلك من تردي وضعهم الصحي، فأعدادهم كبيرة ومياه الشرب محدودة، إذ أن معظمهم يحلون ضيوفاً على أسر ليبية فقيرة. ومع ذلك يصعب توجيه اللوم للسفارة الفلسطينية في مصر والتي عملت كل ما في وسعها من خلال تأمين مستلزماتهم المعيشية والإنسانية وجلب الأدوية وشراء الملابس وتقديم الوجبات والمياه والدعم المالي، فلقد قدمت دعماً مالياً بلغ خمسين جنيهاً مصرياً لكل فرد في الأسرة. والجمل يقر بأن المبلغ متواضع جداً ولا يتناسب على الإطلاق مع الظروف الراهنة، لكنه أبلغني بأن الإمكانات المادية التي لديه محدودة! وليس لدى السفارة تعليمات بتقديم أكثر من ذلك وربما صلاحياتها محدودة، على رغم أننا قرأنا أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) أوصى بضرورة توفير كل ما يحتاج الفلسطينيون العالقون. لكن السؤال هل هذا كاف؟ هناك أسئلة كثيرة تراودني منها: أين سلطة «حماس»؟ هل السلطة حكم وسيطرة فقط؟ أم أنها مسؤولية تجاه الشعب الذي أعطى ثقته لحركة «حماس» من خلال أصواته التي مكنتها من الوصول إلى هذه السلطة التي تنعم بها!، ثم أين رجال الأعمال الفلسطينيون من الذين يملكون أموالاً ومشاريع، أليس من واجبهم تقديم العون المادي والمساعدات لأبناء شعبهم، وقبل هذا وذاك لماذا الصمت وما هذا التعتيم المفروض على قضية هؤلاء العالقين؟ الأمر يحتاج إلى تحرك حقيقي وفوري من الرئيس عباس شخصياً لوضع حد نهائي لهذه الأزمة، وأن يتابع ذلك بنفسه بما يكفل حماية هؤلاء العالقين والحفاظ على إنسانيتهم وكرامتهم التي قطعاً أهدرت. لقد علمت أن الرئيس عباس أرسل مبعوثاً عنه إلى القاهرة التقى كبار المسؤولين المصريين، فهل تم بحث كيفية معالجة هذه الإشكالية أم أن هذا الأمر كان غائباً ولم يدرج على أجندة المحادثات من أساسه؟ ليس مطلوباً أن تتحرك الأساطيل والبوارج على الشواطئ الليبية لنقل الفلسطينيين إلى بر الأمان، لكن هناك خيارات كثيرة يمكن للرئيس الفلسطيني أن يقوم بها شريطة أن تكون هذه القضية الآن على رأس أولوياته ويجب أن تكون، فهو- أبو مازن - من منطلق موقعه كرئيس لهذا الشعب ملزم بإيجاد حلول لوضع حد نهائي لعذابهم. الوضع حرج ولا يحتمل أي تقصير من القيادة الفلسطينية خصوصاً أنه في بداية تصاعد الأحداث تم إجلاء من أرادوا مغادرة الأراضي الليبية عدا الفلسطينيين، لذلك كان يجب تجاوز الإشكالات كافة وكذلك القفز على أية إجراءات قانونية رحمة بهم. بادرت السلطات المصرية أخيراً إلى التخفيف من بعض القيود فسمحت بإدخال أعداد كبيرة من الفلسطينيين وفق ضوابط وشروط محددة، لكن لا يزال هناك الآلاف ممن تعذر إدخالهم، وهؤلاء أمنهم مهدد. في خضم هذه الأوضاع الخطيرة فإن الشعب الفلسطيني يترقب ماذا سيفعل عباس لتجاوز هذه الأزمة الإنسانية الخطيرة التي يعيشها هؤلاء الفلسطينيون.