احتك ابن خلدون بملوك بني نصر في غرناطة، وابتعث إلى أشبيلية لمحاورة ملوكها، كما كان في دمشق مبعوثاً لمحاورة تيمورلنك، عاش دسائس السياسة ومكائدها، وتجربته السياسية الفريدة انعكست في مقدمته الشهيرة. إن ما كان مقبولاً خلال القرن الرابع عشر وما تلاه من قرون من سياسات ومفاهيم لم يعد مقبولاً اليوم، وعلى رغم أن قيم التسامح وحفظ العهود، بل وحرية العبيد رسَّخها الإسلام حينما حلَّ كديانة عالمية، في وقت لم يكن تسامح الغرب تجاه العبيد يحمل تلك الروح؛ إذ كانوا يعاملون بقسوة ولم يكن من السهل إعتاق رقبة أي عبد، في حين صعد العبيد المماليك إلى حكم مصر وبلاد الشام، ولم يكن ذلك مستهجناً من قبل المسلمين. لو قارنا هذا بحقوق السود في الولاياتالمتحدة الأميركية حتى سبعينات القرن الميلادي الماضي، لاكتشفنا مدى تضاؤل حقوق الإنسان بين حضارتين، الأولى تسامحت مع الأرقاء وصعدوا إلى سدة الحكم والثانية حتى بعد تحرير العبيد ظلت لا تعترف بحقوقهم كاملة. من هنا يجب فهم أن القيم والمفاهيم يمكن أن تختلف الرؤى حولها من حضارة إلى أخرى، وما يمكن أن يكون مقبولاً في الشرق قد لا يكون مقبولاً في الغرب، والعكس صحيح. لكن هناك قيمة كبرى اتفقت البشرية عليها في عصرنا الحاضر، وهي احترام الأديان ودور العبادة، فالإكراه الديني لم يعد حق المنتصر في الحروب أو في حالات السلم، وحرية العبادة والاعتناق صارت من المفاهيم المعترف بها الآن. وعلى رغم تشديد الإسلام على ضرورة احترام دور العبادة الخاصة بالأديان الأخرى، إلا أنه جرت العادة، بخاصة في ظل احتدام الاصطدام الإسلامي- الصليبي، على تحويل دور العبادة من مساجد إلى كنائس والعكس. حدث هذا حين هزم المسلمون في موقعة العقاب عام 1212م في الأندلس، إذ سقطت إشبيلية وحول مسجدها إلى كنيسة سان سلفادور، وما زالت المئذنة التي حولت إلى برج شاهدة على ذلك. وكذلك الحال بعد سنوات حين سقطت القسطنطينية في يد محمد الفاتح، إذ تحولت كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد جامع لعاصمة الدولة العثمانية الجديدة. هذا كله كان ضمن لغة عصر يقبل مثل هذه التغييرات، لكن في ظل العهود والمواثيق الدولية المعاصرة صار الحفاظ على دور العبادة في حالات الحروب أمراً محمياً. وما بقي هو أن لغة الحوار في الكتابات الموجهة تستدعي أحياناً شيئاً من روح التاريخ لمخاطبة العصبية الدينية عند العامة من دون مراعاة اختلاف المفاهيم من عصر إلى آخر، بل تقدم الإنسانية في تعظيم مفاهيم حقوق الإنسان. إن تسييس التاريخ في الخطاب المعاصر، هو نتيجة استدعائه من قبل بعض الساسة ورجال الدين لخدمة أغراض ومصالح آنية، كما حدث مع البابا بنديكت حين قدم خطاباً، أثار به المسلمين، كما أن الغرب لسنوات لم يقدم اعتذاراً عن استعماره بلاد المسلمين، بل حتى عن مساعداته لإقامة دولة إسرائيل، بل شكلت مواقف الساسة في الغرب تجاه حقوق الفلسطينيين عائقاً أمام الحوار الموضوعي بين العالم الإسلامي والغرب. وابن خلدون يشترط في الحكام شروطاً أربعة هي: العلم والعدالة والكفاية، وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل. ويهتم ابن خلدون عبر «المقدمة» بالدولة وعمرها وتطورها. هذا الاهتمام مبعثه سببان: الأول هو معاصرته لسقوط الكثير من الدول، والثاني هو نظرة المسلمين في حضارتهم للدولة ككيان يعبر عن الأمة. لعل قرن ابن خلدون الذي كتب فيه المقدمة عكس مرحلة انتقالية ما، بين فكر هذه الشخصية الفذة التي عكست الانتعاش الثقافي والاقتصادي للعالم الإسلامي، في مقابل الأحوال المتردية لأوروبا التي بدأت تشهد في ذلك القرن فوراناً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً قدر له أن ينقل أوروبا نقلة حضارية مهمة. كان العالم في تلك الحقبة يموج بالتقلبات المتعاقبة بين التقدم تارة والتراجع تارة أخرى مع كثير من التبدلات. عكس فكر ابن خلدون في القرن الرابع عشر تسامح العالم الإسلامي واستيعاب الفكر الإسلامي للعالم من حيث التنوع، فقد اعتبر أن الاختلافات بين الشعوب والأمم نقطة إيجابية، أولاً من وجهة النظر العرقية واللغوية، فالتنوع يتأثر بكيفية حياة البشر ونواتج الأرض، والمصنعات، والعلوم والتقنيات، والأخلاقيات، وأخيراً الدين. إن هذا المفكر المبدع يقودنا إلى مفاتيح عصره بل إلى مفاتيح طبيعة العلاقة بين البشر، إذ إنها علاقة بدت في فترات من التاريخ سليمة تقوم على تبادل متكافئ للمصالح. ففي القرن الرابع عشر شهدت أوروبا تحولاً بعيداً مِن التعصب الديني، كما شهدته مصر المملوكية، حين وقعت البندقية معاهدة مع مصر تعطي فيها الأولوية للمصالح الاقتصادية والتجارية، فحدثت نقلة مهمة في العلاقات بين العالم الإسلامي وأوروبا، إذ أصبحت المنفعة المتبادلة أساساً لعلاقة سليمة. نستطيع أن نستكشف اختلاف مفهوم السياسة بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، ففي الأخير السياسة هي فن الممكن الذي يقوم على تعظيم الاستفادة من كل موقف وفق مقتضياته. هي حركة تنظيمات عضوية تستخدم كل ما هو متاح وممكن من الأدوات والنظريات والوسائل، وتبدل قيمتها وغاياتها ومفاهيمها بحسب ما تفرضه المواقف ومقتضيات اللعبة السياسية. على حين أن ماهية السياسة الشرعية تكمن أساساً وفي المقام الأول في كونها تعبيراً عن حركة وتنظيمات منضبطة ابتداءً ومساراً ومقصداً. فهي عند ابن خلدون «قوانين سياسية» أو هي بحسب تعريف ابن الأزرق «ذلك القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال»، الأمر الذي يجعلها بحق رعاية متكاملة لكل الشؤون.