تشهد البلدان العربية أحداثاً تاريخية سيكون لها أثرها على المجتمعات والنظم السياسية العربية، بل إن آثارها ستنعكس على النظام الدولي، وآليات عمله، أيضاً. هكذا، يمكن اعتبار هذه الأحداث العظيمة بمثابة المحاولة الأولى لتغيير النظم السياسية القائمة في البلدان العربية، منذ عهد ما بعد الاستقلال، وتحويلها من الطابع الاستبدادي، أو التسلطي، إلى الطابع الديموقراطي والتمثيلي. وما يلفت الانتباه، في المشهد الثوري التونسي والمصري واليمني، أن هذه المحاولة تضمّنت، أيضاً، لحظة مكثّفة من التثقيف السياسي لأوسع فئات المجتمع، الأمر الذي احدث ثورة حقيقية في ثقافتها السياسية. هكذا، فبعد تغييب الدساتير، والعيش في ظل أنظمة الطوارئ، بات التونسي والمصري واليمني (وغيرهم)، باتوا جميعاً يتحدثون عن الدستور، وأحكامه، وعن ضرورة الحد من نفوذ السلطة التنفيذية، وتكريس فصل السلطات، والمساواة أمام القانون، وتكافؤ الفرص، والرقابة على الانتخابات، وحرية الإعلام، واحترام الرأي الآخر، والتعددية الحزبية، والدولة المدنية. ناحية أخرى يمكن الانتباه إليها، في هذه اللحظة التاريخية المكثفة، هي اكتشاف الشعب لذاته، في تونس واليمن ومصر (ارفع رأسك فأنت مصري)، وهذا ما حصل في الضفة وغزة التي خرج شبابها أخيراً، ضد سلطتي «فتح» و «حماس»، رافعين يافطة: «الشعب يريد إنهاء الانقسام»، وهو ما حصل في العراق ولبنان، حيث نظّمت التظاهرات تحت شعار: «إسقاط النظام الطائفي». جدير بنا هنا التذكير، أيضاً، بأن الثورات الشعبية في البلدان العربية حدّدت أهدافها، بناء على حاجاتها وأولوياتها، التي تركّزت على تطلّب الحرية والكرامة والعدالة والتغيير. ومعنى ذلك أن أية فكرة أخرى، أو أي مشروع آخر (حقيقي أو مزيف)، بعد هذه الثورات، لم يعد يمتلك أية مشروعية للتجاوز على هذه المطالبات، كما لم يعد ثمة مجال، أيضاً، لأية سلطة لتبرير مصادرتها هذه الحقوق بادعاءات وطنية، أو قومية، وهذا ما أثبتته مآلات التجربة «القذافية»، مثلاً. كذلك ثمة شيء جديد، وتحوّل نوعي، جلبته هذه الثورات، في الثقافة والسلوك الشعبيين، وهو نبذ العنف، وانتهاج وسائل التعبير، والتغيير، بالطرق السلمية الناعمة والهادئة (والتي لم يعكّر منها سوى الجنون العبثي للطاغية القذافي)، وذلك على الضد من ثقافة تقديس العنف والكفاح المسلح السائدة لدينا؛ وهذا تغيير ينبغي تسجيله واحتسابه لمصلحة هذه الثورات. لكن الثورات الشعبية العربية هذه سيكون لها، أيضاً، أثرها على النظام الدولي، أو على شكل علاقة النظام الدولي بالوحدات المشكّلة له، لمصلحة تكريس نوع من التدخل الدولي الإنساني في شؤون الدول، لا سيما غير الديموقراطية، أو التي تفتقد مشروعية شعبية دستورية، أو تلك الدول التي تهدد السلم والاستقرار الدوليين، وفي المقدمة إسرائيل أيضاً. فمن الواضح الآن أن النظام الدولي، وفي احتكاكه مع الثورات الشعبية العربية، كرّس مساراً من تشريع التدخّل في شؤون الدول الأخرى، في عديد من المواضيع؛ على رغم أن هذا الأمر ما زال بحاجة إلى نوع من التقنين، والتأطير، والشرعية القانونية، والإرادة الجماعية الدولية. هكذا، فلدى اندلاع الثورات الشعبية (في تونس ومصر واليمن وليبيا) أبدت الأطراف الفاعلة في النظام الدولي رغبة كبيرة في التدخل، تراوحت بين حضّ حكام البلدان المعنية على التعامل بهدوء ومسؤولية مع ما يجري، إلى الضغط عليهم لعدم استخدام القوة العسكرية في قمع المطالبات الشعبية، والاستجابة للمطالبات بالإصلاح، وصولاً إلى الطلب منهم التنحّي عن الحكم، وإفساح المجال أمام التغيير السياسي. وكما لاحظنا، فإن النظام الدولي لم يقف عند هذه الحدود. ففي التجربتين التونسية والمصرية (وبعدهما الليبية)، ذهب هذا النظام إلى حد معاقبة الحكام المعنيين، وذويهم، وحاشيتهم، أولاً، عبر فضح مدى نهبهم وهدرهم لثروات بلادهم، وثانياً، عبر تجميد أموالهم وممتلكاتهم؛ التي تقدر بعشرات بلايين الدولارات! وليس ثمة شك في أن هذا السلوك، يبعث برسالة بعيدة، وذات مغزى، لكل من يعنيهم الأمر، في أنظمة استمرأت حال التزاوج بين السلطة والثروة. لكن الدرس الأبلغ، في هذه التجارب، تأتّى من الدرس الليبي، فهنا بعث النظام الدولي برسالة مفادها انه لن يسمح لأي سلطة بأن تقبض على شعبها، أو أن تسكت مطالبه، بالحديد والنار. على ذلك فعندما ذهب العقيد القذافي الى حد محاولة إخضاع شعبه بالدبابات والطائرات، والمرتزقة، وجد نفسه في مواجهة نظام دولي، ما عاد يستطيع السكوت أو الوقوف من دون حراك أمام مشاهد الدماء والدمار. صحيح أن الحادثة الليبية هذه ليست الأولى من نوعها (بالنظر الى سابقتها اليوغوسلافية في عهد كلينتون)، لكنها تعتبر بمثابة الحادثة المؤسسة، لأن الطاغية القذافي كان يقف هنا عارياً في مواجهة شعبه، من دون أية مداخلات طائفية أو مذهبية أو إثنية أو إقليمية. وهنا قد يصحّ القول بأن التدخّل الدولي في ليبيا، الذي جاء على حوامل عربية، جاء في وقته، بالنسبة الى الزمنين الليبي واليمني، أيضاً، إذ ربما كان بمثابة اللجام الذي حال دون مخاطرة الرئيس اليمني بالذهاب نحو استخدام القوة العسكرية، لكبح الثورة الشعبية في بلده مع كل القلق المشروع من التوازن الخطر في هذا البلد. وكما قدمنا، فإن تلك الثورات لا تصنع تاريخ البلدان والمجتمعات العربية فقط، بل إنها ربما تؤسس لنمط جديد في العلاقات الدولية، وفي شكل تعامل النظام الدولي مع أطرافه، وفق معايير الحرية والعدالة والكرامة والديموقراطية والسلام؛ وهي معايير تأتي في الإطار ذاته لتوسّع نطاق العولمة، وصعود القيم الإنسانية العالمية.