وكنا سمعنا من الرئيس المصري المخلوع أن الوضع في مصر يختلف عنه في تونس، وبدوره ادّعى القذافي (الأب والابن) أن ليبيا تختلف عن تونس ومصر، وأن القذافي ليس كمبارك وبن علي، حتى أن الرئيس اليمني ذهب إلى أن ما يحدث في بلده غريب عن شعبها، وأنه مجرد «عدوى» طارئة، لا أكثر! لكن سلوك الحكام بدا على الضدّ من هذه الادعاءات، فمثلما خرج الرئيس التونسي على شعبه، في أواخر عهده الطويل، بخطاب «الآن فهمتكم»، واعداً إياهم بعهد جديد، من الحرية والعدالة وقطع دابر الفساد، خرج بعده الرئيس المصري حسني مبارك، ثم القذافي الابن (وريث أبيه المفترض)، بالمعزوفة ذاتها؛ التي بات يعزف عليها، أيضاً، معظم الحاكمين في البلدان العربية. ويمكن الاستدلال على التشابه بانقطاع أولي الأمر عن شعوبهم، وعن الواقع الدولي المحيط، وميلهم الى إخراج بلدانهم من التاريخ العالمي، وخشيتهم من تأثير التطورات الحاصلة في العالم في مجتمعاتهم، بدعوى الحفاظ على الخصوصيات «الوطنية»، والتطور التدريجي، والموروث الديني، وصدّ التدخلات الخارجية! وتتشابه هذه النظم لجهة تعظيم القائد أو الزعيم، الذي يماهي بين سلطته والوطن، ويختصر الشعب في شخصه، فهو الوطن مشخّصاً. وبديهي أن هذا التعظيم والتماهي والاختصار يقيم مسافة شاسعة بين القائد وشعبه، فصورته جد كبيرة، إلى الدرجة التي تجعل الحشود الجماهيرية ضئيلة بالقياس لها، والقائد المبهور بذاته ينظر إلى هذه الحشود من عليائه، ومن خلف نظارات قاتمة، نظرة غطرسة وامتهان. لذا لم يكن مستغرباً اعتبار القذافي (في خطابه الأخير) لشعب ليبيا، الثائر في وجه طغيانه، أنهم غرباء، ومجرد خونة وعملاء ومهلوسين وجرذان ومجانين، كاشفاً عمق كراهيته لشعبه؛ وهذا، في الحقيقة، سمة لمجمل الأنظمة السلطوية، التي تستهر بشعوبها، ما يفسر ذهولها وقلقها الشديد مما حصل في تونس ومصر. ولعل القذافي هو التجسيد الكاريكاتوري الأكثر فجاجة وضحالة للسلطان العديم المواهب. فهو يعتقد بأنه الثورة والمجد، فلا شعب ولا وطن من دونه، أما ما بعده فالحريق والدمار والخراب. وهذا السلطان يعتقد أن التاريخ بدأ من عنده، والحقيقة تنبع من بين يديه، والمستقبل رهن إشارته. بل إنه يعتقد جازماً بأنه هبة من الله، وأنه آت من الأسطورة (ألم يدّع في هلوساته الأخيرة بأنه يقود آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا؟!). أيضاً تتشابه هذه النظم بتضخيمها للبنى السلطوية، على حساب المؤسسات الدولتية، وبميلها إلى بعثرة مراكز القوى الأمنية، لتركيز السيطرة عليها، وتوظيفها، وللحؤول دون تولد قوة مركزية مهددة لها. والأخطر أن هذه النظم التي أضعفت الدولة، أمعنت في إضعاف المجتمع وشرذمته، أيضاً، لتشكيله وتنميطه بناء على هواها ومصالحها، وبناء على مقتضيات التحكم والتلاعب والسيطرة، وليس بناء على مقتضيات الاندماجات الوطنية التي تحوّل الكتل البشرية في إقليم معين إلى شعب. وهو الواقع الذي نجم عنه ترسّخ البنى والانتماءات القبلية (المذهبية والطائفية والعشائرية والإثنية) في البلدان العربية. ولعله لم يأت من باب العبث، أو الصدف، تهديد القذافي (الابن والأب) بإثارة الحرب الأهلية القبَلية، في حين أن نظامه يستحق المساءلة والمحاسبة على بقاء الواقع القبلي على حاله، على رغم مرور أكثر من أربعة عقود على ما يسمى «الثورة» الليبية! ولعل أبرز السمات التي تجمع نظماً كهذه، إنما تتمثل في التزاوج بين السلطة والثروة، أو بين واقعي الاستبداد والفساد فيها، وهو ما يسمح بخلق قاعدة اجتماعية واسعة للنظام، ويمنحه بعداً شعبوياً. هكذا تكشفت ثروة بن علي وزوجته (وأخواتها) عن مليارات الدولارات (فضلاً عن الأموال والحلي النفيسة المكدسة في خزائن القصور)، وما حصل بالنسبة الى ثروة مبارك وزوجته ونجليه، والمحاسيب، وهذا ما ستكشفه الأيام عن ثروة القذافي وأولاده. والمشكلة أن هذه الثروة المنهوبة، من موارد شعوب تونس ومصر وليبيا وعرقهم، لا يجرى استثمارها داخل البلاد، وإنما في البنوك والعقارات والاستثمارات الخارجية؛ ما يعني أن هذه السلطة سلطة استبداد وفساد وإفقار في وقت واحد. جانب آخر تتشابه به هذه النظم، ويتمثل في تشبثها بالسلطة، ومعاندتها روح التغيير والتجديد والإصلاح، على رغم أن الشيخوخة تدبّ في جسدها من كل النواحي. هكذا شهدنا في كل التجارب، في الأسابيع الماضية، أن الحكام لا يتوصلون إلى قناعة بضرورة الإصلاح، أو التغيير والتجديد، بوسائل الحوار، ولا المناشدات، وإنما يصلون مضطرين، إما عبر الضغط والتهديد الخارجيين، أو عبر الانفجارات والثورات الداخلية. هكذا، مثلاً، لم يقتنع الرئيس المصري المخلوع طوال السنوات الماضية بضرورة تعديل بعض مواد الدستور ولكنه رضخ لذلك أخيراً، تحت ضغط الثورة الشعبية، وهذا ما حصل، أيضاً، مع الرئيس التونسي المخلوع، وأيضاً ومع القذافي، حتى أن الرئيس اليمني عدل عن الترشح لولاية ثانية، وعن توريث الحكم لابنه، على رغم أن كل المؤشرات كانت تدل إلى انه مصرّ على الذهاب في هذين الاتجاهين. أخيراً، تتشابه الأنظمة في الادعاءات التي تروج لها، لصد دعوات الإصلاح والتغيير، متحججة بأن البديل سيقود البلاد نحو الفوضى، أو نحو هيمنة تيار الإسلام السياسي (القذافي الابن وحده تفتقت «عبقريته» عن التخويف بعودة الاستعمار!). وتتناسى هذه الأنظمة أنها هي المسؤولة عن واقع الفوضى، لأنها لم تبن مؤسسات دولتية حقيقية، وهي المسؤولة عن تفجر النزعات الطائفية والقبلية لأنها لم تعمل على صوغ الإجماعات الوطنية. لكن الادعاء الأكثر ابتذالاً وانكشافاً، هو ادعاؤها رفض الاملاءات والتدخلات الخارجية، وهذا ما لم يخجل حتى نظام مبارك من التشدق به، بالنظر الى سجله في الخضوع للإملاءات الأميركية. ومعلوم أن نظماً كهذه مستعدة لأن تحني رأسها لمجمل التدخلات الخارجية في شؤون بلدانها، لكنها مستعدة لمقاومة أي تدخل خارجي فقط إذا مسّ قدرتها على التحكم والسيطرة، ما يفسر ممانعتها دعوات الإصلاح والتغيير الديموقراطي. وخلاصة الأمر، فإن النظم العربية تختلف عن بعضها بعضاً في كل شيء، في التوجهات السياسية الخارجية، في الثقافة والاقتصاد، وحتى في السياحة، ومناهج تعليم العلوم الطبيعية والفيزيائية والرياضية، وفي الفن والرياضة، ولكنها جد متفقة، أو متواطئة، في ما يتعلق بشؤونها الأمنية، وباستقرار أنظمة الحكم، فهنا تتجسد «الوحدة العربية»، بأعلى تجلياتها. الآن، بانكسار صورة القذافي، تنكسر إلى الأبد الصورة النمطية للطاغية في النظم السياسية في هذه المنطقة من العالم. * كاتب فلسطيني