بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نشأت 15 دولة جديدة مستقلة بما فيها روسيا التي سعت في استعادة السيطرة عليها بحجة أهميتها الاستراتجية لها. وكونت مؤسسات إقليمية عدة لهذا الغرض أهمها: رابطة الدول المستقلة، منظمة الأمن والتعاون المشترك وقوات الرد السريع الملحقة بها، ومنظمة شنغهاي، والاتحاد الجمركي الذي يضم الى روسيا بيلاروسيا وكازاخستان. وأهداف المؤسسات هذه تتلخص بالتعاون الاقتصادي والإنمائي والتطويري، والدفاع عن أمن المنطقة السوفياتية السابقة واستقرارها. ومن بين الدول المستقلة خمس دول قائمة في آسيا الوسطى، (أوزبكستان، كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان وتركمانستان)، وثلاث دول في القوقاز الجنوبي (أرمينيا، جورجيا وآذربيجان). ومنطقة آسيا الوسطى غنية بمصادر الطاقة والمواد الأولية الأخرى، وتتميز بموقع استراتيجي مهم يجعلها عرضة للمنافسة والنزاعات بين الدول العظمى والصاعدة. وهي تشكل تقاطع خطوط مهمة عدة للتوتر الدولي. وتقع على ملتقى الجزأين الشرقي والجنوبي لاورو - آسيا اللذين ترتبط بهما مشاكل أساسية (الإرهاب، الأصولية الإسلامية، النزعة القومية لدول عظمى)، وكذلك الإمكانات المغرية لتحقيق التطور العاصف في القرن الواحد والعشرين. وتمثل المنطقة هذه تقاطع مصالح حيوية مهمة ومجالات جذب لروسيا والصين، مع امتلاكها احتياطات ضخمة من الطاقة. إضافة الى ضعف كبير ومشاكل في طبيعة دولها وبنيتها، ووجود أنظمة تسلطية يقودها عادة شخص واحد. ويعقد الوضع ان استراتيجيات اللاعبين الكبار الخارجيين ليست واضحة تماماً، مع أن روسيا تجهد لجذب حكومات المنطقة الى المشاركة في منظماتها الإقليمية. والصين مهتمة بالتوسع الاقتصادي والوصول الى مصادر الطاقة والمواد الأولية الأخرى. والولاياتالمتحدة بحاجة الى تأمين نقل قوات «الناتو» الى أفغانستان، ومستقبلاً، ربما الى قواعد عسكرية قريبة من الصين وروسياوباكستانوأفغانستان بعد خروجها منها. وسلوك أميركا مرتبط بطبيعة تطور الأوضاع في أفغانستان، وهي ترغب بالتمركز في آسيا الوسطى ذات الموقع الاستراتيجي المهم. والشيء نفسه ممكن قوله عن أفغانستان، لكن أي قاعدة عسكرية هناك بحاجة الى حماية يصعب تأمينها. والصين البراغماتية المهتمة بمصالحها القائمة على التطوير الذاتي، تفضل عادة منح قروض لتمويل المشاريع المحتاجة اليها، وتجفل حين تود بلدان المنطقة او سواها تحميلها مسؤوليات أمنية معينة. وروسيا بعكسها تركز تحديداً على مشاكل الأمن وتعرض خدماتها على جيرانها0 لكن التعاون على أساس المساواة غير ممكن لاختلاف القدرات، وأي محاولة لفرض شروط موسكو على الآخرين، حتى لو كانت معقولة تخيف الشركاء وتدفعهم الى البحث عن قوة بديلة. وبذلك تصبح مجبرة على القيام بدور «البقرة الحلوب»، كما كانت في فترة الاتحاد السوفياتي السابق. وإقامة المواقع العسكرية للدولتين العظميين (أميركا وروسيا)، لا يمكن أن تساعد على الهدوء والاطمئنان وما عدا كازاخستان فإن ما حصل في قرغيزستان قد يتكرر في دول المنطقة الأخرى. وبعد نهاية الحرب الباردة وانهيار النظام الدولي السابق، أظهرت الولاياتالمتحدة مع الاتحاد الأوروبي جاهزيتها لتحمل مسؤولية بناء البلدان الصغيرة والضعيفة والجديدة. لكن بعد 20 سنة لا يمكنهما الافتخار بشيء يذكر. وروسيا لم تتنطح سابقاً لمحاولة تدعيم بناء الدول المجاورة لها، ما عدا طاجيكستان التي أقيمت دولتها بعد الحرب الأهلية بجهود روسيا التي تساعدها أيضاً على تطوير مشاريعها الإنمائية. وموضوعياً فإن كل اللاعبين الكبار لهم مصلحة بوجود دول مستقرة في آسيا الوسطى، وإلا فإن كمية المشاكل للمحيطين بها ستفوق المكاسب التي يمكن ان يحصلوا عليها نتيجة ضعفها وتبعيتها. والكارثة هي ان أحداً لا يدري كيفية الوصول الى الاستقرار، وهو اصلاً غير مطروح كهدف. واللعب بإقامة الديموقراطية بصورة عفوية يؤدي الى نتائج محزنة ظهرت في تجربة «الثورة الزنبقية» في قرغيزستان. والمراهنة على عدم التبدل ومسك الأوضاع بالاعتماد على القوة ما زالت تعمل حتى الآن، لكن ما يثير القلق هو أن الضغط في المراجل يرتفع. ويبدو أن عصر الاستقرار في آسيا الوسطى يقترب من نهايته. ويمكن القول بأن الصراع الأساسي في آسيا الوسطى والمنطقة السوفياتية السابقة عموماً، هو بين روسياوالولاياتالمتحدة. ويظهر من تنظيم خروج الرئيس باقييف من السلطة في قرغيزستان، ان التعاون بينهما ممكن، مع ان المسألة الأساسية تكمن في اعتبار التحديات الحقيقية للسياسة الأميركية ليست في مجال التنافس الإقليمي مع روسيا فحسب، بل في عجز أميركا عن القتال على كل الجبهات في وقت واحد. وعدم الرغبة بالتنازل في إحداها تفرضه حاجات الزعامة العالمية وتأكيد الهيمنة، تجنباً لتأثيرات «حركة الدومينو». الى ذلك فإن الأنظمة المفتقرة الى الاستقرار والشفافية تحتاج الى التنافس بين الدول العظمى الذي يسمح لها بالمناورة للحفاظ على مواقعها. ومن مصلحة موسكو وواشنطن عدم الانجرار وراء الخطط هذه، لأنه يؤدي الى اقتسام مجالات النفوذ بحدة اكثر من السابق، وبنتائجه المدمرة. وعلى رغم محاولات تركيا وإيران نشر نفوذهما في منطقة آسيا الوسطى، إلّا أنه ما زال ضعيفاً حتى الآن. والسياسة التركية الجديدة واضحة المعالم، من خلال تصريحات رئيس الجمهورية التركية عبدالله غل الذي يؤكد سعي تركيا في إقامة اتحاد فيديرالي يضمها مع بلدان المنطقة، وهو ذو أبعاد اقتصادية – تجارية ولغوية – ثقافية. وهو يقول: «إننا ست دول، لكننا أمة واحدة». وفي ظل «الكمالية الجديدة» والعلاقات الدولية الراهنة القائمة على «تعدد القطب» والتغييرات الحاصلة في مجال إعادة توزيع مراكز القوى عالمياً، وصعود تركيا الاقتصادي والسياسي، وتحولها الى قوة إقليمية فاعلة ومؤثرة، اتجهت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي منذ 19 سنة الى تطوير وتدعيم علاقاتها بروسيا في مختلف المجالات. وعلى ما يؤكد وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو فإن «روسيا شريك ذو قيمة عالية ودورها مهم ولاعب أساسي في مجال التعاون الإقليمي»، وهي تشكل مع تركيا ثنائياً قادراً على «تدعيم السلام والحفاظ على الاستقرار» في المنطقة التي تضمها مع بلدان القوقاز الجنوبي المحتاجة أيضاً الى التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. والتعاون في مجالات الاقتصاد والطاقة بين البلدين يعتبر القوة المحركة للعلاقات التركية – الروسية. وحجم التبادل التجاري بينهما كان كبيراً في عام 2008 وبلغت قيمته 38 بليون دولار، وعدد السواح الروس في تركيا بلغ 2.8 مليونين شخص. وتعتبر روسيا مصدر مهم لمصادر الطاقة الى تركيا من خلال مشروع « الخط الازرق»، وهي تؤمن نحو 50 في المئة من حاجاتها من روسيا ما يعطي التعاون بينهما في المجال هذا طابعاً استراتيجياً مهماً. وهناك مشاريع اخرى لتنفيذ مشروع سامسون – جيهان لنقل النفط والاستثمار فيه، وبناء محطة نووية لإنتاج الطاقة السلمية وسواها. الى ذلك فإن قيمة المشاريع التي نفذها الملتزمون الأتراك في روسيا بلغت 30 بليون دولار، والاستثمارات التركية فيها بلغت 6 بلايين دولار، والاستثمارات الروسية في تركيا وصلت الى 4 بلايين دولار. وسياسة البلدين قائمة على تطوير مستوى التعاون المشترك في مختلف المجالات. ولهذا الغرض أنشىء «المجلس الأعلى للتعاون» الذي يسعى أيضاً في تحقيق الاستقرار الإقليمي. وتعاون روسيا مع تركيا مفيد لها، نظراً «إلى تحول هذه الى قوة سياسية واقتصادية مهمة في الشرق الأوسط، وهي ناشطة على خط الصراع العربي – الإسرائيلي، ومن أنصار الحلول السلمية له انطلاقاً من أهميته الدولية، ما يتناسب مع الموقف الروسي، إضافة إلى تحسين موقعها في العالم الإسلامي. لكن الاهتمام بمنطقة القوقاز الجنوبي تظل من الأولويات الأساسية للسياسة الخارجية التركية. وهي تملك صلات تاريخية وثقافية مع بعضها، وتحاول منافسة الولاياتالمتحدةوروسيا على نشر نفوذها فيها، مبررة ذلك بحاجتها الى الأمن والاستقرار والتطور والازدهار، مبرهنة على ضرورة التعاون الروسي – التركي وأهميته لتحقيق الأهداف هذه. وفي القوقاز الجنوبي كل مئة عام تحدث صدامات ناجمة عن محاولات «إعادة توزيع قوى الدول العظمى». ومنطقة القوقاز الجنوبي تعاني من نزاعات جدية ليس من السهل حلها، وتعيق التعاون بين بلدانها لتحقيق تطورها وازدهارها. وتبدو تركيا عاجزة عن تحسين علاقاتها بأرمينيا لعدم اعترافها بالتطهير العرقي الذي مارسته ضد الأرمينيين. وعلى ما يرى ت - توروسيان فإن تركيا التي تعي جيداً أهمية القوقاز الجنوبي الاستراتيجية لها، عليها حل مسائل صعبة عدة في الوقت عينه، لتأمين نجاحها في استخدام قدراتها المتراكمة: أولاً: تعتبر تركيا ان التقارب القوي بين آذربيجان وروسيا ليس مربحاً لها، فهو يؤدي الى إضعاف دورها في العلاقات المتبادلة بينهما. ثانياً: تدعم تركيا الجهود الآيلة الى إعاقة الحل السريع للنزاع حول إقليم ناغورني – قره باخ بين آذربيجان وأرمينيا وفق الرؤية الأميركية، لأن نجاحه يقلص مدى تأثيرها ونفوذها فيهما. والإقليم الأرميني الموجود داخل آذربيجان انتزعته أرمينيا بالقوة منها. ثالثاً: تركيا غير مستعجلة لتحقيق «تسوية» العلاقات مع أرمينيا لتحييد تأثير العوامل السلبية في هيبتها في مجال السياسة الخارجية. وآفاق نشر النفوذ التركي في القوقاز الجنوبي معرضة للتساؤل نتيجة عوامل داخلية مؤثرة، أهمها عدم رضى الجيش التركي عن النظام الإسلامي في تركيا، والفشل في حل المسألة الكردية، في ظل وجود دولة كردية في شمال العراق. وعلى رغم محاولات روسيا الحصول على دعم دولي لاستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتين سلختهما عن جورجيا بعد حرب آب (أغسطس) 2008 ووضعهما في كنفها وتحت جناحيها، عقّد كثيراً الوضع في القوقاز الجنوبي، وخلق جواً من الخوف والقلق وعدم الثقة لدى بلدانه الأخرى، ويعرقل السياسة الخارجية التركية في مجال تحقيق أهدافها. وهي لم تتجاوب مع رغبة روسيا باعترافها باستقلال الدولتين الجديدتين. وللتغلغل في المنطقة طرحت تركيا فكرة تشكيل «هيئة» تضم تركيا وروسيا والجمهوريات القوقازية الثلاث لإدارة نزاعاتها وحل مختلف مشاكلها، لكن ذلك لم يلق آذاناً صاغية. ولدى تركيا مجال للمناورة في السياسة الخارجية من خلال مشاريع نقل الطاقة الضخمة الى اوروبا عبر أراضيها بواسطة الخط الأوروبي «نابوكو» الذي ينقل مصادر الطاقة من بحر قزوين، و «الخط الجنوبي» الروسي، وهما ينقلان الطاقة الى أوروبا0 والمهم هو اعتراف الولاياتالمتحدةوروسيا بدور تركيا الأساسي في المنطقة. وعلاقات التعاون الاقتصادي والاستراتيجي بين روسياوإيران لم تشهد التطور الذي كانت الجهتان تأمل به. وإيران بلد نفطي كبير لديه إمكانات مالية كافية، وهو مؤثر في منطقة الشرق الأوسط والبلدان المجاورة له. والإيرانيون يعتقدون أن معاداة بلدهم الولاياتالمتحدة وحلفاءها هو لمصلحة روسيا، مع ان موقف طهران الداعي الى ازالة اسرائيل من الوجود يتعارض جذرياً مع الموقف الروسي القريب من موقف الغرب، والداعي الى حل الصراع العربي – الإسرائيلي سلمياً، على أساس وجود دولتين مستقلتين تعيشان جنباً الى جنب. وحجم التعاون التجاري بين روسياوإيران ليس كبيراً، لكنْ، هناك تعاون عسكري – تقني، وفي مجال انتاج الطاقة النووية السلمية (محطة بوشهر). وحاولت إيران توطيد علاقتها بروسيا من خلال دعوتها الى الاستثمار في إيران، خصوصاً في مجال البحث عن مصادر الطاقة وإقامة مشاريع متعلقة بها، واشتراكها في مشروع مد شبكة نقل الطاقة الى الهند عبر باكستان. وتتعاون روسيا مع إيران في آسيا الوسطى والقوقاز الشمالي. وقد دافعت روسيا عن إيران أمام المجتمع الدولي، داعية الى اتباع الحوار معها لإقناعها بالتخلي عن برنامجها النووي، والتوصل الى حل وسط مع الهيئات الدولية والدول الست الكبرى. مع أن ليس من مصلحتها امتلاك إيران السلاح النووي. وتعنت إيران واعتمادها اسلوب المناورة والتحايل وعدم الشفافية، وإصرارها على تحقيق برنامجها النووي على رغم معارضة المجتمع الدولي، ومراعاة لمصلحتها القائمة على «تحسين» العلاقات الأميركية – الروسية، غيرت روسيا موقفها من إيران ودعمت فرض عقوبات اقتصادية قاسية عليها. وأوقفت أيضاً صفقة بقيمة 800 مليون دولار لبيع إيران صواريخ «إس – 300» تحتاج اليها إيران للدفاع عن أجوائها ضد أية هجمات محتملة تقوم بها الولاياتالمتحدة أو اسرائيل. وروسيا تعارض شن حرب على إيران، نظراً إلى تأثيراتها السلبية فيها. فعدم دعمها إيران في أي حرب تشن ضدها قد يؤدي الى نقمة واسعة ضدها في آسيا الوسطى وفي أوساط مسلميها البالغين 23 مليون نسمة، وفي عموم العالم الإسلامي، مع احتمال حصول اضطرابات وعمليات إرهابية. وكتكملة للعقوبات رفضت روسيا والصين انضمام إيران الى منظمة شنغهاي. ويلاحظ ان معظم القيادات الإيرانية والأوساط الأكاديمية والثقافية لا تثق بروسيا وتكن كراهية لها، ولا ترغب بالتعاون السياسي معها، وتعتبر أن روسيا خذلت صديقتها إيران في سبيل إرضاء الولاياتالمتحدة. مع ذلك فإن القيادة الروسية تظهر الحذر والتحفظ في علاقتها بإيران، وهي لا ترغب بمناصرتها، أو بمعاداتها والقتال ضدها. وهناك تيار في روسيا يدعو الى التخلي عن التعاون مع إيران، لانزعاجه من طريقة تعاملها مع المجتمع الدولي في موضوع برنامجها النووي، ومن سياساتها التي تنتهجها بصورة عامة. * كاتب لبناني