بسبب الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القوقاز حاولت إسرائيل حجز حصة في الفراغ الاستراتيجي، الذي خلّفه انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي، من خلال إقامة علاقات متينة مع جمهوريات القوقاز بقلم الدكتور :. عبدالله تركماني منطقة القوقاز " جيو- استراتيجية " من الطراز الأول، فهي – جغرافيا - تشكل حاجزا جبليا عملاقا يفصل بين قارتي أوروبا وآسيا. وهي - تاريخيا - كانت أرض الصراع الرئيسي بين الإمبراطوريات الثلاث: العثمانية والفارسية والروسية، والذي أسفر عن " حروب القوقاز " المديدة في القرن التاسع عشر. هذه المنطقة هي آخر الحدود الجنوبية لروسيا, وتضم كيانات سياسية أربعة: الاتحاد الروسي بما يحتويه من عشرات المناطق والجمهوريات ذات الحكم الذاتي, وجورجيا, وأرمينيا, وأذربيجان. ولأنّ جورجيا تقع في النقطة الفاصلة/الرابطة بين آسيا وأوروبا فإنّ لها موقعا جيو - سياسيا مهما للروس من جهة، كما للأتراك والإيرانيين من جهة ثانية، كما للغرب من جهة ثالثة. فكيف إذا ما أضحت الجسر الرابط لتدفق نفط وغاز الجمهوريات القوقازية، وتلك الواقعة في آسيا الوسطى الحديثة الاستقلال عن روسيا، إلى المياه الدولية الحرة من سواحل البحر الأسود ؟ وفي الواقع يرتبط الصراع الحالي في جورجيا عضويا بموارد بحر قزوين من النفط والغاز، باعتباره بحيرة مغلقة لا تتصل ببحار مفتوحة. فحتى يتم نقل نفط قزوين إلى الأسواق الدولية فلا بد من نقله عبر الأنابيب تحت الأرض لمسافات بعيدة جدا، تتخطى فيها الأنابيب حدود الدول لتصل إلى منتهاها عند مستهلكيها. وتأسيسا على ذلك فقد صار الصراع على فرض الطرق لخطوط الأنابيب ملمحا رئيسا لصراع القوى والإرادات الإقليمية والدولية في القوقاز. وتتضارب الأرقام والنسب المتعلقة بحجم الاحتياطي الموجود من النفط والغاز في بحر قزوين، بالنظر إلى اختلاف المصادر. وتشير تقديرات الوكالة الأمريكية للمعلومات الخاصة بالطاقة إلى أنّ حجم الاحتياطيات المثبتة من النفط في المنطقة هي ما بين 17 و49 مليار برميل، مع توقع أن تنتج دوله ما بين 2.9 و3.8 ملايين برميل يوميا في العام 2010. أما احتياطات الغاز، فإنها تفوق الاحتياطات النفطية، إذ تقدر بنحو 232 تريليون قدم مكعب (1). لقد بدأ التوتر في منطقة القوقاز يتصاعد، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، بسبب الثروات النفطية الضخمة في منطقة بحر قزوين، ومن خلفها منطقة آسيا الوسطى. وزحف الغرب نحو هذه المنطقة عبر جورجيا وأذربيجان، من خلال الاستثمارات النفطية في بداية الأمر، والبدء بتنفيذ مشروع خط أنابيب نقل النفط ( باكو - تبليسي – جيهان )، واعتبر ذلك بمثابة صفعة أمريكية لروسياوإيران على حد سواء، كونه أول خط أنابيب ينقل نفط بحر قزوين بعيدا عن الأراضي الروسية، كما أنه صرف الأنظار عن مرور النفط عبر إيران كذلك. وبسبب الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القوقاز حاولت إسرائيل حجز حصة في الفراغ الاستراتيجي، الذي خلّفه انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينيات القرن الماضي، من خلال إقامة علاقات متينة مع جمهوريات القوقاز، عبر بوابة الأسلحة والتجهيزات العسكرية. فمنذ استقلال جورجيا في العام 1991 ربطتها علاقات وثيقة بإسرائيل لسببين (2): أولهما، وجود جالية كبيرة من المهاجرين اليهود في إسرائيل من أصل جورجي على صلة دائمة بأقاربهم في جورجيا، والذين يبلغ عددهم 12 ألف يهودي غالبيتهم تعيش في العاصمة الجورجية وضواحيها. وثانيهما، توطد التعاون العسكري بين البلدين الذي تحول في العام 2000 إلى حلف عسكري، بحيث بلغ حجم التصدير العسكري لجورجيا نحو 200 مليون دولا سنويا، شمل تزويد جورجيا بالطائرات من دون طيار، وبالمدافع المضادة للدبابات، إلى جانب الذخائر وصفقات شملت بيع نحو 200 دبابة ميركافا. وقد يكون للعلاقات العسكرية بين البلدين علاقة ما بالاستراتيجية الأمريكية في منطقة القوقاز، حيث تقوم إسرائيل بدور المقاول من الباطن وتحصل على تفويض أمريكي للقيام بالأدوار التي ترى الإدارة الأمريكية أنّ لها ميزة نسبية فيها مقارنة بالولايات المتحدة. أما بالنسبة لتركيا، فللمرة الأولى خرجت روسيا من كونها جارا جغرافيا بريا لها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، ومن أن تكون مؤثرا مباشرا فيها. ولجأت تركيا، من أجل مصالحها، إلى توثيق روابطها مع جورجيا وتقويتها، اقتصاديا وعسكريا وأمنيا وسياسيا. ولعل البعد الاقتصادي، المتمثل برغبة تركيا في أن تكون لاعبا في مجال الطاقة العالمية ولو من باب العبور والتوزيع، كان عاملا إضافيا لتوطيد العلاقات مع جورجيا. وتجسد ذلك في مشروع القرن، أي مد خط أنابيب نفط وغاز من باكو إلى تبليسي فجيهان التركية على البحر الأبيض المتوسط. ومن المؤكد أنّ تركيا، الموصولة بالقوقاز من الجهة الشمالية الشرقية، حساسة جدا إزاء تحركات الجار الروسي في هذه المنطقة الجيو – استراتيجية، التي تضطلع بدور الحاجز المنيع والجسر، في آن معا، بين السهل الروسي والهضبتين الفارسية والأناضولية من جهة، وبين منطقتي البحر الأسود وآسيا الوسطى من جهة أخرى. ولكنّ عدة عوامل، مثل سيطرة تركيا على ممرات البحر الأسود " البوسفور " و " الدردنيل "، ووجودها الكبير في هذا الحوض المائي، ترسي مصالح مشتركة بين الجانبين الروسي والتركي. وهكذا، لا يمكن قراءة ما جرى من مواجهة عسكرية بين جورجيا وروسيا إلا في إطار تداعيات لعبة الشطرنج الدولية، بين اللاعبين الكبيرين روسيا والولايات المتحدةالأمريكية، لإعادة تشكيل موازين القوى والمعادلات الجيو - استراتيجية الجديدة في فترة ما بعد الحرب الباردة، وما جورجيا في هذه اللعبة الأكبر إلا واحدة من أضعف الأحجار على رقعة الشطرنج الدولية. (1) - أوردها عاطف عبد الحميد: حرب أنابيب الغاز في شرق أوروبا – صحيفة " الحياة "، 6 يناير/كانون الثاني 2006. (2) – راجع رندى حيدر: وجوه إسرائيلية لصراع القوقاز – صحيفة " النهار " اللبنانية، 23 أغسطس/آب 2008. ************************************** *نقلاً عن صحيفة "الوقت" البحرينية.