تسعى هذه الدراسة - كما ورد في مقدمتها - إلى الإجابة عن التساؤلات التالية: 1- ما هي أهم المعطيات العرقية والدينية عبر القوقاز وآسيا الوسطى؟ 2- كيف توظف تركيا وإيران هذه المعطيات بما يخدم طموحاتهما الإقليمية؟ 3- هل تمتلك تركيا وإيران قدرات من شأنها التأثير في المستقبل السياسي لدول المنطقة لإخراجها من الهيمنة الروسية أم أنهما تسعيان إلى الاستفادة من سوق المنطقة وثرواتها؟ وتتكون الدراسة من قسمين يعنيان بالتنافس وبالتعاون بين تركيا وإيران في هذه المنطقة. التنافس التركي - الإيراني: استعرض المؤلف في هذا القسم أسس التنافس التركي - الإيراني في آسيا الوسطى والقوقاز، التي تبرز اهتمام الدولتين بتوظيف المعطيات الحضارية والجغرافية والثقافية التي تربط كلا منهما بشعوب ودول آسيا الوسطى والقوقاز، وحرص كلتا الدولتين على تقديم نفسهما كنموذج يحتذى من هذه الدول، وأن هذا التنافس يبلغ ذروته في جمهورية أذربيجان التي تتجاذبها إيران مذهبياً وتركيا قومياً. وينتقل المؤلف من ثم إلى تفصيل ملامح سياسة كل من تركيا وإيران في آسيا الوسطى والقوقاز على النحو التالي: أولاً: التحرك التركي مجالاته، وذلك في سبيل إحياء المشاعر الطورانية، ويقصد بذلك إعادة بروز ما يمكن الاصطلاح عليه ب «العالم التركي» الذي يمتد جغرافياً من البلقان غرباً إلى الصين شرقاً، ويضم حوالي 150 مليون نسمة، وتركز تركيا في تعاونها مع التجمعات التركية في المنطقة على الجانب الثقافي، لتفادي إثارة النزعات الاستقلالية التي يمكن أن تنعكس على تركيا نفسها، ولذا فإن ثلثي الاتفاقيات المبرمة بين تركيا والجمهوريات الجديدة في آسيا الوسطى والقوقاز تتعلق بالتعاون الثقافي، واللغوي خاصة. كما تجدر الإشارة إلى نجاح المساعي التركية في تنظيم المؤتمر الثاني للشعوب التركية للاتحاد السوفيتي في نيسان (أبريل) 1991 بمدينة قازان، وقد جمع ممثلي جمهوريات آسيا الوسطى وبعض الأقاليم المستقلة ذاتياً. وقرر المؤتمرون تأسيس حزب مؤتمر الشعوب التركية، كما وافقوا على استبدال الحروف اللاتينية بحروف لغاتهم الأصلية أسوة بتركيا، أما بالنسبة لتصدير النموذج التركي، فتعمل تركيا على الظهور كنموذج يتميز بخصوصيات رئيسية أهمها: العلمانية، والتعددية السياسية، وتجربة التحول إلى اقتصاد السوق. ويشجع تركيا على ذلك دعم القوى الغربية الكبرى لنموذجها، سواء الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا أيضاً التي تهتم بمواجهة موجة الحركات الدينية الإسلامية المناهضة للسيطرة الروسية، المرتبطة في الادراك الروسي بتجربتي أفغانستان والشيشان. ومن بين ما تهدف إليه الطبقة الحاكمة التركية إحداث ريع استراتيجي جديد يجعل تركيا هي رأس الحربة للغرب تجاه القوقاز وآسيا الوسطى، بعد أن كانت تلعب هذا الدور تجاه الاتحاد السوفيتي سابقاً، وبالتالي تبرهن أنقرة من جديد على دورها الاستراتيجي، وتحافظ على تدفق المساعدات إليها، كما تسرع من الاندماج في السياسة والاقتصاد الغربيين. وتجدر الإشارة إلى أن الاختراق السريع الذي قامت به تركيا في هذه المنطقة لم يكن ليتم بسهولة دون المساندة الأمريكية غير المشروطة لتركيا لتكون قوة استقرار في المنطقة وعاملاً موازناً لإيران. وفي هذا السياق يندرج القرار الأمريكي في شباط (فبراير) 1992 بالاعتماد على تركيا لتنظيم عملية «إعادة الأمل» لمساعدة الجمهوريات الاشتراكية السابقة بآسيا الوسطى والقوقاز، وهو ما دفع بإيران لتصف تركيا بأنها «عميل للولايات المتحدةالأمريكية يسعى إلى فرض نموذج غربي على جمهوريات آسيا الوسطى بهدف محو شخصيتها الإسلامية». ثانياً: التحرك الإيراني تجاه جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى وينقسم إلى قسمين الأول التحرك الإيراني في اتجاه جمهوريات القوقاز، وتأتي جمهورية أذربيجان المستقلة في مقدمة الاهتمامات الإيرانية لاعتبارات أساسية تمس بالوحدة الإيرانية وأهمها: التداخل الاثني، إذ يوجد نحو 6 ملايين أذري في إيران، 60٪ منهم لا يتكلمون الفارسية، بالإضافة إلى الحدود المشتركة وانتشار المذهب الشيعي. وتتخوف إيران من احياء المطالب التاريخية بتوحيد الشعب الأذري، ولذا اتسم تحركها برفض الطرح التاريخي حول تقسيم أذربيجان (الكبرى)، وتغليب البعد المذهبي الديني على البعد القومي، والتدخل الدبلوماسي من أجل تسوية النزاعات، ولا سيما النزاع بين أرمينيا وأذربيجان، والدعم المالي للعديد من المنظمات الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية العاملة في أذربيجان، حتى إن سلطات باكو اتهمت إيران بالعمل على فرض النموذج السياسي الإيراني. وفي مقابل هذا الموقف وجدت المساعي الإيراني قبولاً واسعاً لدى سلطات إقليم ناخيتشيفان الأذري الذي يمتمتع بوضع خاص، حيث توافد إليه العديد من البعثات الدينية الإيرانية، كما قامت طهران بترتيب إقامة اللاجئين من منطقة المعارك بإقليم كاراباخ، تحت إشراف الهلال الأحمر الإيراني، وتطوير المواصلات البرية عبر الحدود، وفتح ممر عبر أراضيها بين أذربيجان وإقليم ناخيتشيفان. ولأن وجود أقلية قوية من الأذريين شمال البلاد أمر يخيف إيران كثيراً، فقد اعترفت بأذربيجان متأخرة جداً، كما أن إيران تحافظ على علاقات جيدة مع أرمينيا ذات الأغلبية المسيحية الساحقة (94٪) من باب الضغط على أذربيجان. وبالسياسة الذرائعية نفسها تطمح طهران إلى جعل منفذاً استراتيجياً للنفط والغاز الإيرانيين عبر البحر الأسود نحو أوروبا. وقد شرعت في تمويل توسيع ميناء بوتي على البحر الأسود، وتحديث المصفاة الجورجية في باطومي، إضافة إلى احتمال تمويل إيران لمشروع خط أنبوب الغاز والنفط، وإنجاز طريق بري بين البلدين عبر أذربيجان. وقد التزمت طهران بتموين جورجيا بربع حاجاتها من الغاز، وتزويد مصنع طائرات سوخوي قرب العاصمة تبيليسي بالألمنيوم الإيراني مقابل التزام جورجيا ببيع طائرات حربية لإيران. والثاني التحرك الإيراني تجاه جمهوريات آسيا الوسطى، مقارنة بجمهوريات القوقاز، تتوافر لطهران إمكانيات تحرك أحسن تجاه جمهوريات آسيا الوسطى أهمها: عامل الجغرافيا الذي يفرض إيران كأقرب طريق نحو مياه الخليج العربي لتطوير المبادلات مع العالم الخارجي. بالإضافة إلى تفوق انتشار الإسلام، وأهمية الأقليات الفارسية، والروابط الثقافية العريقة، والحدود الطويلة المشتركة مع تركمانستان، وإمكانية الوصول إلى كازاخستان عبر بحر قزوين. في هذا الإطار، تدرك طهران مدى أهمية التنمية في حفظ الاستقرار على الحدود الشمالية. ولذلك تعمل بثبات على إقامة روابط اقتصادية متينة، أهمها: ربط شبكات السكك الحديدية لجمهوريات آسيا الوسطى بمدينة مشهد في إيران، وهو المشروع الذي سيفك عزلة تلك الجمهوريات، ويوفر لها مخرجاً برياً مباشراً إلى مياه الخليج العربي، كما يكسر عزلة طهران دولياً، ويجعلها حلقة مركزية في المحاور الاقتصادية التي تقام بالمنطقة. وتأتي جمهورية تركمانستان في مقدمة الطموحات الإقليميةالإيرانية، إذ افتتحت في عشق أباد أول سفارة لإيران في آسيا الوسطى. ويرجع هذا الاهتمام إلى عوامل عدة، أهمها: الحدود المشتركة الطويلة، ووجود نحو مليوني نسمة من التركمان في إيران، أي ما يعادل نصف سكان تركمانستان وبالتالي فهي تطرح تقريباً الإشكال نفسه الذي تطرحه جمهورية أذربيجان لإيران، إذ تعتبر مجالاً حيوياً، ومصدر قلق في الوقت نفسه. كذلك، انتعشت العلاقات الإيرانية مع جمهورية أوزبكستان مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ومما ساعد على ذلك المكانة المتميزة التي بقيت تحظى بها الثقافة الفارسية في أوزبكستان حيث تقع مدينتا سمرقند وبخارى، أهم مدن الثقافة الفارسية في آسيا الوسطى. أما جمهورية طاجيكستان فقد اكتسبت أهمية خاصة في إطار الطموحات السياسية الإيرانية، بسبب انتشار الإسلام فيها دون منازع، والأصول الفارسية لأغلبية سكان طاجيكستان مقارنة مع بقية الجمهوريات، والانتشار الواسع للغة الفارسية، وتخوف الطاجيك ذوي الأول الفارسية من سيطرة الأغلبية ذات الأصول التركية في مجال آسيا الوسطى. وعكس تحركها الديني النشط في أذربيجان، اتسمت سياسة إيران تجاه طاجيكستان بالواقعية والحذر من تنامي المطالب السياسية لبعض الأطراف الداعية إلى إقامة «طاجيكستان كبرى» تمتد من كابول إلى بخارى. وفضلت إيران دور الحكم في الصراعات السياسية الداخلية، وعقب سقوط الحكومة الائتلافية للإسلاميين والديمقراطيين عام 1992، كانت طهران سباقة إلى الاعتراف بالحكومة الشيوعية الجديدة في دوشمبي. أما بالنسبة للتعاون الإقليمي فقد شرعت إيران وتركيا بحماس واضح في العمل على ادماج علاقاتهما الثنائية بالجمهوريات المستقلة في أطر تعاون إقليمي تستطيعان من خلالها هيكلة المجال المجاور في منظمات تعاون إقليمي، وصوغ المحتوى السياسي والتوجه الخارجي للتنظيم الإقليمي المقترح. وحول المبادرات الإقليميةالإيرانية فقد تم إحياء نشاط منظمة التعاون الاقتصادي التي أنشئت عام 1985، وتضم تركيا وإيران وباكستان، وقد عملت طهران على انضمام أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان وكيرجيستان. ويتطلع القادة الإيرانيون إلى أن تصبح هذه المنظمة سوقاً إسلامية كبيرة تضم 250 مليون نسمة على مساحة 4 ملايين كيلومتر مربع. وتأسيس مجلس التعاون لبحر قزوين في نيسان (أبريل) 1992، بهدف تسهيل المبادلات التجارية والملاحة وتطوير الموانئ والتنقيب واستغلال الموارد البحرية. إضافة إلى تأسيس منظمة ثقافية إقليمية للشعوب الناطقة بالفارسية، تضم إيران وطاجيكستان وبعض المجموعات من الفصائل الأفغانية. وتحقق هذه المبادرات لإيران مكاسب عدة، أهمها منافسة التطلعات الطورانية لتركيا والداعية إلى تجميع الشعوب التركية، وفتح المجال للجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة للخروج تدريجياً من دائرة النفوذ الروسي، والتخفيف من حدة التطلعات القومية العابرة للحدود، وتقليص تدخل القوى المعادية في المنطقة وخاصة احتمالات توسع الناتو فيها. أما عن ردود الفعل التركية، فقد تميز تحرك تركيا الإقليمي بطرح مشروعات موازية ومماثلة للمشروعات الإيرانية. فقد دعت تركيا في تشرين الأول (أكتوبر) 1992 إلى مؤتمرات قمة للدول ذات الأغلبية التركية في آسيا الوسطى والقوقاز. كما سارعت إلى إنشاء منطقة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود في حزيران (يونيو) 1992 باسطنبول، وتضم الدول المطلة على البحر الأسود، إضافة إلى ثلاث دول غير مطلة عليه، وهي ألبانيا وأرمينيا وأذربيجان. وتعكس هذه التشكيلة طبيعة الازدواجية في الأولويات الإقليمية لتركيا، ومحاولة التوفيق بين الاعتبارات الجغرافية والسياسية، ويمكن تلخيص هذه الاعتبارات في الآتي: بناء إطار للتعاون الإقليمي تتميز فيه تركيا بدور محوري. إبراز الحضور القوي للشعوب التركية وثقافاتها، من خلال عضوية أذربيجان وألبانيا. تهيئة الظروف السياسية لدعم حظوظ تركيا كخيار أمثل لأنابيب تصدير الطاقة من حوض قزوين، مقارنة بالخيار الإيراني أو الروسي. وإقناع جمهوريات القوقاز بأفضلية التعاون مع تركيا بدلاً من إيران، باعتبار تركيا بوابة سياسية واقتصادية نحو الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدةالأمريكية. أما عوامل التقارب التركي - الإيراني ومعوقاته فعوامل التقارب هي التجارب السابقة للتنسيق والتعاون الاقتصادي والسياسي، بدءاً بميثاق سعد أباد عام 1937 بين كل من تركيا وإيرانوأفغانستان والعراق، ثم حلف بغداد عام 1958، وحلف المعاهدة المركزية عام 1964، ومنظمة التعاون الإقليمي للتنمية عام 1965، ومنظمة التعاون الاقتصادي 1985، ثم توسيع هذه الأخيرة عام 1992 لتضم أفغانستان وطاجيكستان وأوزبكستان وكيرجيستان وكازاخستان وتركمانستان وأذربيجان. والموقع الجيواستراتيجي، حيث تمثل المنطقة التركية - الإيرانية ومجموع الأعضاء الجدد في منظمة التعاون الاقتصادي تجمعاً متماسكاً جغرافياً، يمتد من الهند والصين شرقاً، إلى مشارف أوروبا والبحر المتوسط غرباً، ومن جنوبروسيا شمالاً إلى الخليج العربي وبحر عمان جنوباً. إضافة إلى القواسم الثقافية والتاريخية لشعوب المنطقة في إطار ما يسمى الحضارة التركية - الفارسية. أما بالنسبة للمعوقات فتكمن في اختلاف طبيعة النظام السياسي في تركيا وإيران، وبالتالي وجود مؤسسات سياسية وطنية غير متجانسة، وانتهاج سياسات خارجية متناقضة. وضعف الاستقرار السياسي في إيران وتركيا وفي جمهوريات عديدة مجاورة. والأثر السلبي للطروحات المتطرفة لبعض الأوساط السياسية في كل من تركيا وإيران. ومنها المطالبة بإحياء التراث الإمبراطوري لتركيا، أو المطالبة بإعادة ترتيب الحود على أساس عرقي، مثل ما هو مطروح من طرف أنصار توحيد أذربيجان، وما تثيره الأبعاد الدينية في السياسة الخارجية الإيرانية والتيار المتشدد فيها من مخاوف إقليمية ودولية كبيرة. إضافة إلى تدخل القوى الكبرى في المنطقة، وخاصة سياسة الاحتواء والمقاطعة الأمريكية التي تقف ضد أي مشروع تعاون إقليمي تشترك فيه إيران مع جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز. وخلاصة الكتاب فتح انهيار الاتحاد السوفيتي المجال أمام تطلعات قوى دولية وإقليمية عديدة في آسيا الوسطى والقوقاز، أبرزها تركيا وإيران اللتان عملتا على استثمار المعطيات الحضارية والجغرافية والظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية لهذه المنطقة، وتقديم نموذج للجمهوريات الناشئة فيها. ولذا كان من الطبيعي أن تتسم علاقات هاتين الدولتين الإقليميتين بالتنافس، ومحاولة كل منهما موازنة نفوذ الأخرى وارتباطاتها الإقليمية والدولية. بيد أن هذا التنافس لا يعني غياب أسس موضوعية للتعاون، أهمها الروابط الحضارية المشتركة، وفشل كل منهما في الانضمام إلى أطر بديلة، وما يوفره التعاون من إمكانات ضخمة للمنطقة كلها. وتتوقف سياسات الدولتين في هذه المنطقة على عوامل عديدة، أهمها حل التناقضات الداخلية، والقدرة على تلبية حاجات الدول الناشئة المتطلعة إلى دوريهما، ومواجهة نفوذ القوى الكبرى، وخاصة الأمريكي، والروسي الذي لا يزال المحدد الأبرز لسياسات المنطقة.