إنهم يفشون غلهم فيهن. وينفسون عن قهرهم من خلالهن. ويعبّرون عن تضاؤل دورهم بالجثوم على أنفاسهن. ويتحججون بأن إخفافاتهم إنما هي بسببهن. ويعوّضون ضبابية مفاهيمهم الذكورية بانتهاج نهج الطاووس واتباع أسلوب الشعراء في التغنّي بالقمر، على رغم إنه يتكوّن من صخور محطّمة وأحجار مهشّمة نتيجة ارتطام النيازك والأجرام السماوية به. نموذجان ينتميان إلى طرفي نقيض التركيبة الطبقية والاجتماعية في مصر يؤكّدان أن بعض الرجال يتعرّض لهزة نفسية عنيفة ويرزح تحت إعادة تقويم واقعية قاسية. نسرين (38 سنة) خريجة الجامعة الأميركية في القاهرة والتي تزوّجت مصطفى (40 سنة) بعد قصة حب عميقة هزت قلوب المحيطين، وجدت نفسها بعد 14 عاماً من الزواج وقد وقعت صريعة شروط ذكورية ومحاذير فوقية وسبل تقييد وسيطرة شعبية. فقد طالبها زوجها في بداية الزواج بأن تلغي خانة العمل وتطمس مساحة الطموح المهني لأنها «ملكة بيتهما الجميل» و «مالكة قلبه السعيد» إلى آخر لائحة «المخدرات العاطفية» التي تصيب كثيرات. وأذعنت نسرين ومضت السنوات لتجد نفسها بعد عقد كامل ربة بيت منقطعة الصلة بالعالم الخارجي، لا تفقه في شؤون الحديث سوى متابعة صرعات طبق «الكوسة بالبشاميل» وتحليل محتوى برامج ال «ستاند آب كوميدي» وما تيسّر من فقرات العلاج بالجن وفك السحر بالأعمال. هذا الكائن الجديد الناتج من قلة الاحتكاك بالعالم الخارجي تسبب في شعور الزوج بالحاجة الماسة إلى رفيقة تناسب مجال عمله حيث دعوات إلى الغداء وحفلات عشاء وسفر داخلي وخارجي ونقاشات في الفن والمال والسينما والسياسة. وبالطبع لم تكن نسرين الرفيق المناسب فتزوّج بأخرى ناعتاً الأولى ب «المتأخرة» و «التافهة» و «السطحية». وحين اعترضت أسرتها ولامه أصدقاؤهما، قال إنه رجل وحر في ما يفعل وأن الشرع والمجتمع يضعانه في مكانة أعلى، وأن «وهم» المساواة و «أكذوبة» الحقوق المتساوية لا وجود لها إلا في الكتب النسائية «التي تخرب البيوت»، وأنه لن يطلّق الزوجة الأولى إلى أن يكبر الأولاد. أولاد فاطمة القابعة على طرف النقيض الطبقي الآخر هم من دفعها إلى العمل في مجال النظافة في مطعم شهير، وبعد انتهاء ساعات العمل تنظّف عدداً من البيوت. فالزوج الذي وجد نفسه مُسرّحاً من عمله بعد «ثورة يناير» لتعثّر الشركة التي كان يعمل فيها رفض قبول أي فرصة جديدة بمستوى أقل. ولولا نزول الزوجة إلى العمل انهارت الأسرة تماماً. وأمام لوم الأهل وكلام الجيران على قيام فاطمة بدور مزدوج واكتفائه بالجلوس في المقهى، بدأ ينفس عن غضبه ويفش عله بإهانتها مرة نفسياً ومرات جسدياً. وبين النموذجين آلاف الحالات الأخرى التي تعكس تغييرات كبرى في مفهوم الذكورة العربية، التي تتعرّض لاهتزازات كبرى بدافع الحاجة إلى التحديث وحتمية التطوير. حتمية تطوير مفهوم الذكورة في أدمغة أصحابها موثّق بدراسة مهمة عنوانها «فهم الذكورة»، ترتكز على استقصاء مطوّل عن أنواع الرجال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال 4 بلدان هي: مصر، لبنان، المغرب وفلسطين. وهي متقاربة أحياناً إلى حد التطابق في ما يتعلّق بمفاهيم الذكورة في أذهان الرجال بين 18 و58 سنة، يجمعها هيمنة للمواقف التقليدية في ما يختص بالمساواة. وأشارت الدراسة الصادرة هذا العام بالتعاون بين هيئة الأممالمتحدة ومنظمة «بروموندو» الدولية المعنية بالمساواة وإيجاد عالم خال من العنف، عبر مشاركة الصبية والرجال جنباً إلى جنب مع الفتيات والنساء بالتعاون مع شركاء بحثيين محليين، إلى تعرّض الرجال في هذه البلدان الأربع التي تمر بعثرات اقتصادية كبرى، إلى ضغوط هائلة أهمها العثور على فرصة عمل تضمن قيامهم بدورهم «الذكوري» الكلاسيكي حيث إعالة الأسرة. وترددت عبارات وأحاديث تعكس أعراض اكتئاب عدة بين هؤلاء، لا سيما حيث توجد صراعات وتوترات داخلية، وهي الظروف التي تفاقم أزمة البطالة. وعلى رغم شيوع مظاهر العنف في تعامل الرجال مع الزوجات والبنات وحتى زميلات العمل، كنوع من التنفيس المتاح عن الغضب والشعور بالضعف، إلا أن بين ثلث الرجال ونصفهم في هذه الدول تحدثوا عن خجل يعتريهم من مواجهة أسرهم نظراً لغياب فرص العمل التي تدر مدخولاً معقولاً. لكن الواقع يشير كذلك إلى أن وجهات نظر ذكورية عدة تنظر إلى المرأة باعتبارها كائناً ناقصاً غير مكتمل، يحتاج إما إلى الرعاية أو التقويم أو الحجب. وقبل أيام اشتعلت «صفحة عنكبوتية» مخصصة لتواصل سكان مدينة عمرانية جديدة على أطراف القاهرة. فقد كتب أحد السكان أنه يشعر بأسى شديد كلما رأى امرأة تقود سيارتها حيث «لا يعرفن أصول القيادة ومترددات وبائسات وغير قادرات على التركيز وبطيئات إلخ». وعبّر الساكن عن كامل تعاطفه مع «كل من تضطرها ظروفها لأن تبرح بيتها وتقود سيارة لتوصل ابنها إلى المدرسة أو التمرين الرياضي، إذ يكفيها مهمتها الرئيسة من تربية الأولاد ورعاية الزوج والعناية بالبيت». الغالبية العظمى من السكان من الرجال وجانب من النساء نقروا «لايك» (إعجاب) لما كتبه هذا «الجار» وأثنى بعضهم على سعة صدره وتفهمه لأسلوب قيادة النساء غير المنطقي، فيما أمطرت الساكنات رأسه بتعليقات من نوعية «أغلب حوادث الطرق يقترفها رجال»، و «المرأة التي يتحدّث عنها ربما كانت في طريقها إلى العمل وليست بالضرورة ربة بيت مشتتة الذهن مهيضة الجناح». مثل هذا الجدل موثق في الدراسة حيث عبر غالبية الرجال عن وجهات نظر غير منصفة تماماً في ما يتعلّق بأدوار النساء. فأهم دور للمرأة هو العناية بالأسرة والمعيشة، وجانب من النساء يؤمن بذلك أيضاً. كما يؤمن نصف الرجال تقريباً بأن دورهم هو مراقبة حركة النساء والفتيات في حياتهم والسيطرة عليها. وتبدو مسألة «السيطرة» سواء بدافع الحماية أو ممارسة المفاهيم الذكورية التي لم تعد موجودة إلا في أذهان الرجال مسألة إما مقبولة من بعض النساء، أو مرفوضة نظرياً من دون إتاحة أدوات أو وسائل لتغييرها. والغريب أن هذه المواقف الذكورية الفوقية موجودة لدى الشباب الأصغر سناً حيث عنصر الوراثة الاجتماعية يعمل بلا هوادة. أما عواملها، وفق الدراسة، فتبدأ بنوعية التعليم ومكانته، إذ إن التعليم الحديث يؤسس لمفهوم المساواة، والمتمسك بتلابيب الماضي والعادات يجذر لفوقية الذكور. ويمتد التوارث كذلك إلى استخدام العنف ضد النساء. فقد كشف بين 10 إلى 45 في المئة من الرجال ممن سبق لهم الزواج، أنهم استخدموا أو يستخدمون العنف الجسدي ضد الزوجات. وقال بين 20 و80 في المئة منهم إنهم يلجأون إلى العنف العاطفي. وبدت نتائج الدراسة في ما يتعلّق بالرجال المصريين متوقعة وظاهرة بالعين المجرّدة. فغالبية المصريين تتمسّك بسلوكيات أبوية تجاه الحقوق والعلاقات بين الرجال والنساء. ومال الرجال الأكثر ثراء والأعلى تعليماً لقبول فكرة المساواة، فيما تمسّك الآخرون (وهم الغالبية) بفوقية الذكور، وهو ما يفسّر حال الشارع الذي يحاصر الكائنات الأنثوية على وجودها فيه ويعاقب. وكما تميّز المصريون بمقاومة شديدة لفطرة عمل المرأة خارج البيت ومشاركتها في مختلف جوانب الحياة السياسية والعامة. وفي الوقت عينه، فإن المصريات هن من يحملن العبء الأكبر من الأعباء المنزلية في حين تنفرد النسبة الأكبر من الرجال بقرارات المعيشة. لكن ثمة نقطة ضوء في نفق الذكورة المظلم حيث قال حوالى 60 في المئة من الرجال إنهم يقضون وقتاً قليلاً مع الأبناء وإنهم يودون زيادته. كما أن نصفهم يشارك في مهام تتعلّق برعاية الأطفال، ونصف الرجال والنساء يوافق على فكرة الإجازة الأبوية مدفوعة الأجر. وبعيداً من الدراسة تظل الحياة في مصر في حاجة ماسة إلى مراجعة مفهوم الذكورة من قبل أصحابها.