المرأة الجنوبية.. تلك التي عاشت في أتون الحرب الطاحنة التي خلقت صعوبات وقيودا أمام مشاركتها في الحياة العامة.. فتحملت وطأة المصاعب بعدما غرق جنوب السودان في وحل الفقر طيلة النزاع. وزادت معدلات وفيات الأمومة وتركت حواء الجنوب التي تشكل (60٪) من منتجي الغذاء في بلادها عرضة لمخاطر الاستعباد والاختطاف.. بعد أن كانت في الخطوط الأمامية أيام الحرب، فهي الأم والأخت والزوجة التي كانت شاهداً حزيناً على مدى نصف قرن .. «الرياض» في حلقتها الثانية ذهبت لقراءة واقع المرأة الجنوب سودانية لتلقي الضوء على البيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي نشأت المرأة فيها.. وما هي الأدوار التي تؤديها منذ الطفولة إلى الشيخوخة.. والتعرف على ماذا كانت حواء الجنوب قادرة على لعب دور بارز في مرحلة السلام كما كانت في الحرب.. إن المرأة الجنوبية مثلها مثل المرأة في معظم المجتمعات التقليدية «الريفية» أحد ممتلكات الرجل، وهي في معظم الأحوال عبارة عن آلة إنجاب لزيادة أفراد القبيلة، وهي كذلك مصدر أساسي لدخل الأسرة، ومع أن المرأة الجنوبية دخلت المؤسسة التعليمية فقط في الستينات والعقود اللاحقة لها، إلا انها تمكنت نوعاً ما التخلص من السيطرة الاقتصادية بالنسبة للرجل. ولكن ظلت مسألة حقوقها محل تنكر وإتهام بالخروج على الموروث الثقافي وقيم القبيلة ووصايا الآلهة، وصارت نسبة من نساء الجنوب اليوم يقمن بذات الدور الأبوي في المنزل، ويمارسن الاضطهاد مثلهن في الوقت الذي تعمل على ترسيخ قهر المرأة بذات الأدوات التي يقهر بها الرجل المرأة. «الرياض» ذهبت الى أدغال جنوب السودان لتقف عند وضع المرأة الجنوبية، ولتقرأ المشهد النسوي عن كثب، وباعتبار قبيلة الدينكا مجموعة إثنية كبيرة في جنوب السودان حرصت «الرياض» على أخذها كنموذج للتعرف على تفاصيل عديدة عن حياة المرأة الدينكاوية في الريف والحضر، فضلاً عن إجراء مقارنة لحياتها بعد التحولات الديموغرافية التي صاحبت الانتقال إلى مدن الجنوب والشمال معاً والنتائج السالبة أو الموجبة التي أفرزها التداخل الثقافي مع مجموعات الإثنيات الأخرى. البيئة الثقافية وتأثيرها يبقى مجتمع الدينكا كغيره من المجتمعات الذكورية الأبوية مجتمعاً يصعب على المرأة أن تنداح وتبدع فيه ذلك أنها مطالبة بالقيام بالانتاج والإنجاب، فهي وفق الأعراف والمعتقدات الدينية المحلية كائن أقل من الرجل، أقل ذكاء، أقل قدرة على التحمل، وهي لا تملك العقل المبدع ذلك العقل الذي أوجد البيئة الثقافية والاجتماعية التي يعيش الدينكا فيها. يعد الرجل الدينكاوي، النبي والحاكم والقاضي والمالك الأول والأخير للأرض وما فيها، وبالتالي فإن الانتاج الثقافي ملكه هو، وعلى أساس ذلك تشكلت البيئة الاجتماعية والثقافية التي تحوي كلا من الرجل والمرأة. وإذا كان الرجل هو من يتولى المسؤولية التنفيذية والقضائية والدينية كما أسلفنا فإنه كذلك صاحب الحق في ادارة المرأة وتحديد مهامها، وحقوقها وواجباتها، وهو صاحب الأخلاق والمعايير الاجتماعية المرتبطة بالسلوك والتقويم والتأديب، وهو الذي يحدد متى تفصل عن الأبناء الذكور ومتى تنتقل الى عالم الزوجية والأمومة، وهو يحدد بكم «تشترى مهرها»، من يتزوجها ولكل ذلك تنتج البيئة الاجتماعية والثقافية للدينكا المرأة التابعة على أفضل وجه. في الشيخوخة تلزم المرأة منزلها وتنزوي في أماكن لا تتم إعارة الاهتمام فيها بحالها لأنها صارت عديمة الفائدة وتبقى الفائدة الوحيدة التي يمكنها تقديمها لمجتمعها هي قيامها بمراقبة الأطفال وتربيتهم على أساس أبوي، حيث تكرس لذات الدورة التي مرت بها ويحق لزوجها في ذات الوقت الزواج من فتاة في سن الرابعة عشر أو الخامسة عشر بهدف تجديد الدماء في أوصاله ويجوز لها - الزوجة الأولى - في هذه الحالة القيام باختيار العروس الجديدة وتبقيها بجوارها لتنهل من معينها. ولا يتم الرجوع إلى المرأة العجوز إلا في حالة البحث عن أنساب الأسلاف وسر تاريخ القبيلة لأنها من خلال العملية تتوخى الدقة في حفظ التفاصيل الخاصة بعلاقات الدم لدى اقرباء زوجها. صناعة القرار وهكذا فالرجل هو المصدر الوحيد الذي تجب العودة إليه في مسائل السلطة والاقتصاد والدين وهو لا يمكنه بأية حال اعطاء السلطة الإدارية والتنفيذية والزوجية الخاصة بالدينكا للمرأة غير أن المسائل المرتبطة بالانتاج يتم السماح فيها بهامش من الاستقلال للمرأة، ولكن ذلك لا يعني أنها مستقلة استقلالاً نهائياً، بل يجب أن يصب الهامش المتاح لها في شؤون المنزل وهذا الاحتكار للمداخل الاقتصادية «زراعة وثروة حيوانية»، قاد تلقائياً في مجتمع الدينكا الذي يظل مجتمعاً ذكورياً إلى سيطرته على أمور الدين فهو الروح الشريرة، فضلاً عن كونه سلطانا وبالتالي هو القاضي. قد تقرر المرأة في مستوى بيتها فقط، ولكن لا يمكنها أن تقرر في شؤون العشيرة أو القبيلة مهما كانت حصيفة أو قادرة على الضغط على زوجها. ليس للمرأة عند الدينكا أي دور في صناعة القرار بحسب الأعراف والمعتقدات الدينية، إذ أنها تحصر فقط في لعب دور آخر يتعلق أيضاً بالقرارات وهو إشاعتها في الوسط الاجتماعي وتداولها بالحديث في الكواليس النسائية. التمرد على النظم الاجتماعية لا تتيح نظم الدينكا القبلية - لأي كائن مهما كان - فرصة التمرد على الاطلاق، فعلى سبيل المثال إذا تمردت فتاة على الأعراف المعمول بها فيما يتعلق بمسائل الزواج أو الأخلاق فإن لوالدها وأخيها أو أقرب الأقربين من العشيرة الحق في معاقبتها حتى تنصاع لما تقرره الأسرة وينطبق ذلك على المرأة المتزوجة والتي قررت مثلاً ترك زوجها والهروب مع عشيقها، بإحضارها الى المنزل ومعاقبتها بفصلها من حق المعاشرة الزوجية ونسبة الطفل الناتج عن العلاقة غير الشرعية الى زوجها بفهم أنه دفع مهراً مقابل المرأة، وبالتالي يحق له امتلاكها وامتلاك ذريتها مهما كان عددها. بيد أن النظم والأعراف السائدة اذا تم التعدي عليها من قبل المرأة لأي داع فإن ذلك ربما يقود إلى إعادتها إلى أهلها وقيامهم فيما بعد بتسوية المخالفة وتعويض الزوج ببقرة أو إعادة المرأة المتمردة إليه من جديد. ولا تملك المرأة في قبيلة الدينكا حق الطلاق، ولكنها ربما تحصل على بعض الحقوق أمام المحاكم الأهلية. أثر التعليم على أوضاع المرأة الجنوبية عندما بدأ الجنوبيون في ادخال أبنائهم المدارس في الأربعينيات من القرن الماضي كانوا يدخلون الأبناء المشاغبين والبعض الذي كان يوصف بالجبن ويحتفظون بالأبناء الذكور، لذلك فإن البنات لم يكن لهن الحظ في التعليم البتة وكان محرما على البنت الخروج من نطاق القبيلة إلا لأغراض تتعلق بالمنزل والعودة إليه في أقرب فرصة، ولذلك ما كان للمرأة أن تدخل المجال التعليمي إلا بعد أن ازداد الوعي الجنوبي عقب التمرد الأول وبعد أن بدأ الجنوبيين يتوافدون إلى المدن الجنوبية الكبيرة مثل جوبا وواو وملكال وبعد لجوء أعداد كبيرة منهم إلى خارج البلاد خاصة الدول الافريقية المجاورة. وفي عقود السبعينيات والثمانينيات التي شهدت تخرج أعداد قليلة من النساء من الجامعات والثانويات بدا ان البعض منهن أراد تغيير بعض المفاهيم والأعراف مثل «أقير قوم» المعروفة اليوم في صفوف الحركة الشعبية بأم المناضلين و«يار ارول كشوال» زوجة الدكتور «توبي مادوت» التي تعتبر أول امرأة جنوبية تنال البكالوريوس من جامعة الخرطوم. وطالما ان الذكورية هي النظام السائد فإن نضال المرأة الدينكاوية لنيل حقوقها أو السعي لتغيير بعض الأفكار والمفاهيم والانتقال إلى مربع المساواة قوبل بالعنف والصرامة ولم تفعل المدينة والتعليم أي فعل إيجابي لتغيير الخارطة المفاهيمية في المجتمعات الدينكاوية عن المرأة. بيد أن النزوح إلى الشمال وأنحاء كثيرة من بقاع الأرض حرك المرأة مفاهيمياً إلى مربع أقرب إلى المساواة في بعض الحقوق مثل التعليم والعمل الخاص واختيار الزوج ولكن الطلاق وزعامة القبيلة ما يزال النضال حولهما يتطلب وقتاً. هل تلعب المرأة الجنوبية دوراً فاعلاً ما بعد السلام؟! بالرغم من أن الحرب الطاحنة في جنوب السودان كانت كابوساً ثقيلاً على المرأة الجنوب سودانية فهي الضحية التي أجبرت على الهجرة قسراً من موطنها إلى مخيمات النازحين في شمال السودان وفي الدول المجاورة. وهي التي استنزفتها الحرب الأهلية مادياً وبشرياً وعانت في الشتات من ويلات التشريد والقتل والاغتصاب، وبالرغم من كل المعاناة للمرأة الجنوبية إلا ان اتفاق السلام بحسب المراقبين اخفق في تحسين الأوضاع فيما يتعلق بحقوق المرأة إلى درجة ان منظمة العفو الدولية حذرت مراراً من تجاهل وضع مساواة المرأة. «الرياض» سنحت لها الفرصة بلقاء مجموعة من النساء اللواتي ومدن من المنفى وتم تهميشهن جراء الحرب التي استمرت (21) عاماً ب «جوبا» عاصمة الجنوب، في مهرجان بهيج بعد وقف اطلاق النار.. وفي هذا الحفل كن عشرات من النسوة الجنوب سودانيات يزغردن ويرقصن على وقع الطبول الافريقية وجميعهن اتفقن أن السلام سيوفر فرصة لتحسين وضع المرأة ومساواتها بالرجل. وإحدى هؤلاء النسوة هي بارسيلاجوزيف منسقة الشبكة السودانية للمنظمات غير الحكومية وهي شبكة تنضوي في إطارها منظمات المجتمع المدني الجنوب سودانية ومقرها نيروبي، ولها فروع في جنوب السودان. وقد صرحت بارسيلا ل «الرياض» قائلة «إن الحرب حولت النساء في جنوب السودان إلى فئة هامشية ضمن المهمشين» مشيرة إلى أن النساء عانين من اضطهاد إضافي في مجالات التعليم والاقتصاد والسياسة».. إلا انها أعربت عن أملها في أن تكون اتفاقية السلام فرصة سانحة لتحرير المرأة الجنوبية. لقد زاد النزاع الذي استمر لأكثر من (50) عاماً من معدلات وفيات الأمومة ومن معدلات التعليم المتدنية، وترك الجنوب سودانيات يعانين من واحد من أدنى المؤشرات لنوعية الحياة في العالم وفقاً للأمم المتحدة. رغم أن كرستينا دينق تعترف بأن الاتفاق لا ينص على حقوق محددة للنساء، إلا انه يتحدث عن حقوق الإنسان الأساسية والمواطنة المتساوية للرجال والنساء، ويعد كافياً بالنسبة لها في الفترة الحالية. وتقول كرستينا «لن نركن نحن النساء إلى السلبية وندع الحكومة تفعل ما تشاء، فمع قدوم السلام سنأخذ وضعنا الشرعي كمواطنات في هذا البلد». تمثل النساء (60٪) من سكان السودان كله، و(80٪) من منتجي الغذاء فيه، غير أن الحرب حرمت البنات من التعليم وعرضتهن لمخاطر جمة. ورغم انه لا تتوفر احصاءات عن عمليات الاختطاف، إلا أن المنظمات الدولية ضد العبودية، وهي مجموعة قانونية في لندن، تقدر بأنه تم اختطاف (14,000) نسمة من قبائل الدينكا في جنوب السودان، والغالبية العظمى من النساء والأطفال، وأن (8,000) نسمة منهم قد تم اخذهم إلى غرب كردفان و(6,000) إلى جنوب دارفور. وفي أوائل عام (2000)، قدر مسؤول في منظمة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسيف) انه يوجد ما بين (5,000) و(10,000) طفل في الأسر. وحينما بدأت الجولة الأخيرة من المحادثات في نيروبي عام (2000)، شاركت فيها بعض النساء كمراقبات وإحدى هؤلاء النساء هي آووت دينغ أكوبيل، وهي ناشطة من أجل السلام في مجلس الكنائس السوداني الجديد. أكوييل التي حازت عام (2002) على جائزة العمل الإنساني التي تمنحها جمعية انتر أكشن، وهي مجموعة تضم (061) منظمة أمريكية للعمل التطوعي تقول «لقد كنا ضحايا للاستعباد والاختطاف، اننا لم نستمتع بالسلام فقط منذ الاستقلال فقد ولدنا في اتون الحرب وكبرنا في خضم الحرب وأنجبنا أولادنا خلالها». والآن تنظر أكوييل التي عاشت في المنفى طوال فترة الحرب في امكانية العودة إلى ديارها وبدء حياة جديدة. موارد جديدة وتتوقع تيريزا موديستو وهي عضو في الاتحاد العام للمرأة السودانية، وهي منظمة كبيرة ومقرها الخرطوم ان النساء سيستفدن وقد وضعت الحرب اوزارها من الموارد الجديدة.وتأمل غريس دوكيرا، العضو في الحركة الشعبية لتحرير السودان في أن تعترف حكومة الوحدة الوطنية الجديدة بدور النساء في توفير الغذاء وخدمات التمريض وتقول: «لقد كانت النسوة في الخطوط الأمامية للحرب، جنباً إلى جنب مع أزواجهن، وقد حافظن على وحدة عائلاتهن أثناء الحرب» وتضيف «اننا نريد من العالم ان يعترف باسهامات النساء أثناء الحرب». وتتطلع دوتيرا وآخرون إلى أن تقوم الحكومة الجديدة باتخاذ الخطوة التالية لصالح المرأة وذلك لضمان أن يتم تمثيل النساء على نحو أفضل في الحكومة، ولضمان امكانية وصول أفضل للتعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية بالنسبة للبنات.