تحول التدخل الدولي من خيار مرفوض في العراق عام 2003 إلى أمنية مطلوبة عام 2011. ليس في ذلك انقلاب في المفاهيم، وإنما لكل قضية ظروف وخصوصية. في الحالين كان هناك اقتناع قوي بأن ثمة دكتاتوراً يحكم بصلف ودموية. وشكل سقوط صدام حسين إنذاراً مدوياً كان معمر القذافي أكثر من استشعره، فبادر إلى تعديل سلوكه حيال الخارج وأبقى اليد الغليظة على الداخل. وبلغت شراسة الاستبداد عند القذافي حداً جعل العرب والمسلمين، في غمرة الثورات الشعبية، يطلبون التدخل الخارجي بل يستعجلونه، بل يرون أن تأخره مريب. بديهي انهم بادروا إلى هذا الخيار على مضض، وبقيت الأطراف المنتقدة والمعارضة هامشية ومحدودة ومشكوكاً في مراميها، إذ أن رفض التدخل بذريعة السيادة عنى بكل وضوح إجازة استمرار الدكتاتور الليبي في قتل مواطنيه. هناك فارق بين الرغبات التي أبدتها الجامعة العربية وبين نص القرار الدولي بحظر الطيران وبين الطريقة التي تنفذ بها عملية «فجر الأوذيسة». لكن المنطق والواقع العسكريين يفرضان الحقائق التي تلائمهما، فرئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين وصف القرار الدولي بأنه «يسمح بكل شيء» قبل أن يشبهه ب «دعوات العصور الوسطى إلى حملات صليبية». كان القذافي سارع إلى وصم التدخل ب «الصليبي» للحضّ على قتاله، فهو سيرحل من دون أن يدرك لماذا خذلته دول الغرب بعدما بذل الكثير للحصول على دعمها لنظامه. الدول الكبرى، مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل، كانت بادية الانزعاج طوال المداولات بشأن حظر الطيران. فها هي دولة عربية أخرى تعيد المجتمع الدولي إلى مواجهة مع ما بات يطرح نفسه ك «عقيدة» ثابتة في السياسة الدولية. فالتدخلات تكسر الثبات والاستقرار في سير المشاريع والصفقات، وتعيد ترتيب خرائط النفوذ والمصالح، وقلَّ ما تكون ل «حماية المدنيين»، فهذه تصلح فقط كتغطية للتدخلات. كانت هناك شعرة بين الامتناع عن التأييد وبين «الفيتو» الصيني أو الروسي، لكن الوقوف إلى جانب القذافي كان صعباً. رغم كل النقاش المحموم حول «الحق» في تغيير الأنظمة، خصوصاً بعد التجربة العراقية، قفز الموضوع مجدداً إلى الضوء، وساهم في تأخير قرار التدخل. إذ كان يجب التفاهم على الهدف من حظر الطيران. هناك من اعتقد أن بعض الدول تعمد اللعب على الوقت لإعطاء القذافي فرصة إعادة سيطرته، فإذا بقي في السلطة تضمن الدول الكبرى سريان عقودها معه، ويكون الجميع مسرورين، لكن سيكون عليهم أولاً أن يبرروا المجازر المتوقعة وقبولهم المسبق بحصولها، وثانياً أن يرسلوا إلى شعوب المنطقة أسوأ إشارة فيما هي تنتفض ضد حكام حان لهم أن يرحلوا. وعندما صدر القرار الدولي كان مفهوماً أن نظام القذافي وضع على الأقل، على سكة التغيير. لكن المسألة التي بقيت غامضة تتعلق ب «النظام البديل» فالقذافي حرص على إضاعة البدائل أو تبديدها، العالم يحاول الآن التعرف إلى ما يمثله المجلس الانتقالي الذي شكلته المعارضة، فيما يحاول القذافي نصحه بأن «الشيطان الذي تعرفه» يبقى أفضل من ذاك الذي سيأتي. بعد مضي ساعات على بدء العمليات في أجواء ليبيا، تغيرت موازين القوى، وبدا أن مسار الأزمة نفسها سيتغيّر. كان القذافي يخوض معركة نظامه ومعركة كل نظام آخر يماثله. خسارته ستتعمم، وهو يفضل المجازفة بوحدة ليبيا وشعبها على أن يسلم الحكم. ومن يماثله من الحكام أعدّ العدّة لحروب أهلية تمهد لتقسيم البلاد. ومن الواضح أن أياً منهم لم يرد أن يتعلم من تجربة الآخر، بل تبين انهم أعجز من أن يتعاملوا مع أهلهم المسالمين، ويعجبون إذ يتدخل العالم لحماية «الفئران والجرذان» من الموت. كان الأفضل ألا تُستدرج التدخلات، فالرهان على تكرار تجربة «القاعدة» في العراق، وعلى ردود فعل صاخبة من جانب العرب والمسلمين، لم يعد واقعياً. إذ أن التغيير أصبح ديناميكية عربية ومن يحتقرها تحتقره. والمذهل هو هذا الكم الهائل من الكره الذي يكنّه الحكام الطغاة لبلدانهم وشعوبهم. انه يفوق كره القوى الدولية التي تستدعى للتدخل. * كاتب وصحافي لبناني