تشكّل الأحداث الخارقة الجارية في المنطقة العربية فرصة تاريخية لإصلاح العلاقة الأميركية – العربية جذرياً بما هو في مصلحة الطرفين. تشكل أيضاً فرصة نادرة للرئيس باراك أوباما لصياغة استراتيجية نحو منطقة الشرق الأوسط تتماشى مع التطلعات والوعود التي تأبطها الى البيت الأبيض عندما دخله متوّجاً بهالة التغيير. ولربما تصبح ثورة الشباب العربي الهوية التي لا تكف عن العطاء، ليس فقط «للعربي الجديد» الذي أدخل الإصلاح الى قاموس الحكام العرب وانما أيضاً للرئيس الأميركي – إذا أحسن توظيف الفرصة المؤاتية. كل هذا يتطلب المزج بين التطلعات والوقائع بحكمة وبتماسك وبجرأة أخلاقية وسياسية. وقد يكون من حسن حظ أوباما ان توقيت انتفاضة العربي الجديد يتزامن مع استعداداته لخوض معركة الاحتفاظ بالرئاسة الأميركية لولاية ثانية. فالخريطة السياسية في الشرق الأوسط لن تعود الى ما كانت عليه مهما آلت اليه التطورات، وهي تعد بنظام إقليمي أفضل – أقله منطقياً. سوء الحظ ما زال وارداً للرئيس الأميركي في حال تدهور أوضاع المنطقة العربية الى تشرذم وتقسيم وحروب أهلية وفراغ في أعقاب إسقاط الأنظمة، فعندئذ لن ينجو أحد من المحاسبة. هناك الآن وضع يتطلب ورشة تفكير مشترك بين أقطاب التغيير العربي والغربي على السواء بالذات الأميركي. وقد حان الوقت للغة جديدة في الخطاب السياسي وفي المخاطبة الشعبية. حان الوقت لشبه انتفاضة على السياسة الأميركية التقليدية نحو منطقة الشرق الأوسط بما فيها سياسات ولدت في عهد باراك أوباما. ولو كان الرئيس الأميركي في «غرفة تقويم الأوضاع» يستمع الى أفكار ومقترحات، من المفيد أن يسمع ما هي توقعات ومخاوف الذين يحدثون التغيير في المنطقة العربية. «العربي الجديد» الذي بزغ من انتفاضة الياسمين في تونس و «ثورة 25 يناير» في مصر يوافق على حزم الأسرة الدولية والأسرة العربية مع الزعيم الليبي معمر القذافي. انه يريد إيقاف القمع الدموي، ويدعم قرار مجلس الأمن الذي جمَّد أرصدة عائلة القذافي ومنعهم من السفر. انه في غاية السرور لإحالة خروقات حقوق الإنسان وما ارتُكِب من جرائم ضد الإنسانية الى المحكمة الجنائية الدولية. ونعم، انه يتمنى وقف سفك الدماء بأسرع ما يمكن وبأكثر الوسائل دقة كي لا ينتصر القمع. ما يخشاه «العربي الجديد» هو ان تكون محطة ليبيا محطة الارتباك ومن ثم تصبح موقع قدم الانزلاق. بعدما خرج الرعايا الأميركيون من ليبيا، فجّرت إدارة أوباما ما في حوزتها من إجراءات ديبلوماسية واقتصادية ليس فقط على الصعيد الثنائي وانما داخل مجلس الأمن. أحرزت إنجازات لا يُستهان بها عندما عملت سوياً مع الوفود العربية والأفريقية لإقناع الصين وروسيا بالالتحاق بالإجماع وراء مجلس قرار الأمن الذي شكّل سابقة. الوفد الليبي لدى الأممالمتحدة بقيادة السفير عبدالرحمن شلقم ونائبه ابراهيم دباش لعبا دوراً أساسياً وسجّلا سابقة تاريخية بمخاطبة مجلس الأمن بصفتهما ممثلي ليبيا ليحضا على إجراءات محاسبة ومحاكمة معمر القذافي ونظامه. مندوب لبنان السفير نواف سلام، العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن، لعب دوراً مهماً داخل المجلس كما في الجمعية العامة حيث قاد حملة جمع أكبر عدد من الدول لتتبنى تقديم مشروع قرار تعليق عضوية ليبيا في مجلس حقوق الإنسان. والمدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، أسرع الى تنفيذ توصية مجلس الأمن في غضون 4 أيام، مسجلاً بدوره سابقة أخرى. كل هذا جيد ومهم وضروري. ولكن، لقد برز جديد مختلف على الساحة الأميركية المحلية في اليوم التالي للتصعيد الديبلوماسي الذي قادته كل من وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون والسفيرة الأميركية لدى الأممالمتحدة سوزان رايس. جاء الجديد عبر المؤسسة العسكرية الأميركية بما فيها وزير الدفاع روبرت غيتس وذلك عبر سكب الماء على فكرة فرض حظر الطيران في ليبيا والتي طلبتها المعارضة الليبية. المعارضة طلبت أيضاً عمليات عسكرية جوية تقوم بها الولاياتالمتحدة انفراداً أو عبر حلف شمال الأطلسي (الناتو) على أهداف معينة. وشددت المعارضة على ضرورة أن يكون التدخل العسكري حصراً جوّياً من دون دخول قوات أجنبية الأراضي الليبية. الفارق كبير بين رفع المعنويات وبين تضخيم التوقعات – وحذار رفع توقعات الشعب الليبي ليلاقي نفسه في خيبة أمل، بل في خطر فادح، إذا أعاد أصحاب توزيع الوعود النظر. فإذا كانت المؤسسات العسكرية والسياسية في الولاياتالمتحدة تعتزم القيام بعمليات محددة ضد مواقع محددة وتحتاج السرية، حسناً. أما إذا كان هناك تسرّع الى الكلام عن حماية الشعب الليبي بإجراءات فرض حظر الطيران قبل التدقيق فيما إذا كان هناك استعداد لتحمله، فمن الضروري الإسراع الى ترطيب الوعود والتوقعات. من ناحية اخرى، يبدو وكأنه فات اوان العودة عن التصعيد بما يتضمن إجراءات عسكرية تقوم بها «الناتو» بمشاركة أميركية بعدما طُرحت فكرة الإجراءات في المواقف الرسمية العلنية. يبدو أيضاً أنه قد فات الأوان عن تراجع معمر القذافي عن تصعيده ليلعب الأوراق القبائلية والعشائرية ليستعيد زمام السيطرة وفي رأيه ان السلاح على الأرض هو الذي سيحسم وليس الوعود والتهديدات الخارجية أو الإجراءات الجوية. ماذا سيحدث إذا تمسك القذافي وأولاده ونظامه بالتصعيد العسكري لدرجة اندلاع حرب أهلية؟ هذا هو السؤال الذي يجول في ذهن العربي الجديد. هل ستغسل الولاياتالمتحدة وأوروبا أيديها لأنها ليست مستعدة ان تدخل طرفاً في حرب أهلية؟ الجواب هو نعم، انما الرهان هو على عدم وصول الأمور الى ذلك المنعطف. لكنه جواب غير كافٍ للطمأنة. ثم هناك شرق ليبيا حيث «القاعدة» حقاً. ما هي الاستراتيجية نحو تلك المنطقة؟ هناك كلام عن ترتيبات تتعلق بالحقول النفطية وهناك حديث حول العمل على إجراءات ضد الدول التي تصدّر المرتزقة الى ليبيا. انما ليس واضحاً ان كانت هناك استراتيجية في حال إطالة معمر القذافي للحملة العسكرية التي يقوم بها، مراهناً على الوهن أو على القيود الأميركية الداخلية. فإذا فات الأوان على الصفقات، وفات الأوان على التراجع، يبدو منطقياً ان القرار هو المثابرة عبر مختلف الوسائل. المحكمة الجنائية الدولية لن تتمكن من إحداث تغيير فوري على ساحة المعركة، لكن الضربات العسكرية الجوية قد تحدث التغيير. وهذا ما تتمناه قوى المعارضة في اعتمادها على الدور الأميركي والأوروبي آملة بدعم عربي من نوع آخر. الثورة الليبية لها معالم ثورة الشباب مع ان أقطاب النظام الذين تحوّلوا ضده هم في صدارة الذين يشكلون المجلس الانتقالي. ولذلك هناك أوجه الشبه بين أحداث شمال أفريقيا. في اليمن الوضع مختلف حيث هناك ما يمكن اعتباره معارضة تقليدية – وليس ثورة شباب كما في شمال أفريقيا. الرئيس علي عبدالله صالح دخل هذا الأسبوع في حوار مع المعارضة بعدما ردّت عليه أخيراً بطلبات محددة فيما رفضت في السابق الانخراط في حوار مؤكدة على إسقاط النظام. الرئيس اليمني فهم ان لا عودة الى الماضي وان رياح التغيير وصلت اليمن. انه يفقد أعصابه حيناً ويتمالكها حيناً آخر انما في نهاية المطاف، لا مناص من إقرار علي عبدالله صالح ان أفضل مصير له ولبلاده هو ان يحمل هو راية التغيير بصدق وبجدية وعلى أساس برنامج زمني واضح ومفصّل. السياسة الأميركية نحو اليمن تبدو متماسكة لكنها تبدو مبعثرة للمحللين الذين يراقبون ملف اليمن. فأما ان هناك استراتيجية تستحق الشرح والتفسير، أو ان هناك تخبطاً يتظاهر المسؤولون الأميركيون واليمنيون بعدم وجوده. دول مجلس التعاون الخليجي أسرعت الى العمل المشترك بعد أحداث البحرين وعينها على اليمن. هي أيضاً تصغي وهناك مطالبات بإصلاح جدي ومفصّل من مثقفين ومهنيين قدموا عرائض طالبت بإجراءات جدية للإصلاح داخل إطار احترام الانظمة الملكية. كسر جدار منع النقد الذاتي بالغ الأهمية للإصلاح ولضمان ان يكون التغيير في منطقة الخليج أكثر منهجية. كل هذا التغيير سيكون له مردود رائع على كيفية تقويم العربي الجديد لنفسه ولقدراته على الساحة المحلية والإقليمية وكذلك الساحة الدولية. الولاياتالمتحدة تبقى في صدارة الاهتمام العربي، انما العلاقة الأميركية – العربية عانت دائماً من انفصام أو سوء فهم أو انعدام الثقة والاحترام المتبادل برغم المصالح المشتركة. بالطبع، ان السياسة الأميركية مبنية على اعفاء إسرائيل من المحاسبة على كل ما تفعله بما في ذلك انتهاكات لحقوق الإنسان وامعان في الاحتلال وحتى جرائم حرب – كما جاء في تقارير الأممالمتحدة ومنظمة «هيومان رايتس واتش». وقد حان وضع هذا الإعفاء على طاولة الحوار الضروري مع العربي الجديد. فصحيح ان العربي الجديد يثور اليوم على أوضاعه الداخلية ويحاسب حكامه. كما يجب أن يفعل كأولوية. انما الصفحة الضرورية في العلاقة الأميركية – العربية الجديدة ستتطرق بالتأكيد الى أسباب استمرار تقزيم العربي في العلاقة الأميركية – الإسرائيلية – العربية. ومن الصحّي جداً البدء في هذا الحديث ليس لإلقاء اللوم وانما لإصلاح الخلل في هذه العلاقة المصيرية للجميع.