حركات الاحتجاج التي عمت العراق، تعنى بالحريات المدنية، وكفالة حق المجتمع في الرقابة على الدولة. أطلقت الاحتجاجات سجالاً غنياً حول قضايا جوهرية هو دليل عافية فكرية ونهوض للعقلانية. السجالات تتركز على دور المجتمع في تأسيس حقه في الرقابة على الحكومة قبل أية انتخابات وخلالها وبعدها، ومدى احترامها الدستور. أبرز السجال يتركز على الفساد وسبل درئه، بكل الأدوات المتاحة، مجتمعياً، عبر الاحتجاجات والإعلام، ومؤسساتياً، عبر البرلمان، المؤسسة الأبرز في الرقابة، فضلاً عن الهيئات المستقلة، وأبرزها، هيئة النزاهة، وديوان الرقابة المالية. وبينما تسعى السلطة التنفيذية الى تقييد سبل الرقابة الاجتماعية، بالحدّ من التظاهرات، وتضييق الخناق على الإعلام الأهلي، وخرق حيدة الإعلام الحكومي، والاعتداء على المتظاهرين، فإنها سعت بقدر مماثل من الحمية الى تقييد، إن لم يكن ابتلاع، الهيئات المستقلة، ومنها هيئة النزاهة، وهي الأداة المؤسساتية الوحيدة المتاحة لرصد الفساد المالي والإداري، وتوفير قاعدة معلومات قانونية كافية لدرئه ومحاربته. أفرد الدستور للهيئات المستقلة باباً خاصاً، الى جانب ثلاثة أبواب للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. وبينما تمثل السلطات الثلاث التقسيم الكلاسيكي للسلطات، المؤسس منذ أن وضع مونتسكيو سفره «روح الشرائع» في القرن الثامن عشر والذي يعد أساس كل نظام سياسي ديموقراطي، فالتقسيم الثلاثي توسع في الدولة الحديثة ليضم الإعلام ك «سلطة رابعة»، والهيئات المستقلة التي تعد بمثابة «سلطة خامسة». ومن الغرابة بمكان أن يتقدم رئيس الحكومة بطلب الى المحكمة الدستورية متوخياً إلحاق هذه الهيئات واخضاعها لمجلس الوزراء، والأغرب أن توافق المحكمة الدستورية على طلبه. لكن الغرابة تتبدد بمجرد أن يتذكر المرء أن السلطة التنفيذية، اية سلطة، تسعى دائماً وأبداً إلى توسيع صلاحياتها، وإزالة اي قيد على حريتها في التصرف، تارة باسم الأمن القومي، وطوراً باسم الوحدة الوطنية، وثالثة باسم المصالح العليا ورابعة باسم ضرورات المعركة. حصل هذا في بلدان ديموقراطية عريقة. فالأمن القومي أتاح لرؤوساء أميركيين إخفاء المعلومات وإعلان حروب من دون تفويض، الى ان تحرك الكونغرس ليحرم الرئيس من هذه وغيرها من «الحقوق»، وتشريع قوانين تحمي حرية الحصول على المعلومات. النزعة المركزية المشددة ستظل ميزة لكل الحكومات، مع نوري المالكي أو من دونه، وسيظل المجتمع يسعى إلى انتزاع حقوقه التي تنتهك باسم النزعة المركزية المشددة (وأكرر: المشددة بمعنى المفرطة، المتجاوز للدستور)، أيضاً مع السيد المالكي أو من دونه. فالقضية تتصل بالعلاقة بين الدولة والمجتمع، لا بين المجتمع والفرد، بصرف النظر عن مكانة هذا الفرد الحاكم وقيمته. إذا كانت النزعة المركزية المفرطة الصادرة عن مجلس الوزراء أمراً مألوفاً ونزعة «طبيعية» لتشديد الاحتكار، فإن نزعة المحكمة الدستورية الى التساوق مع رغائب السلطة التنفيذية تظل غير مفهومة. ما علة موقف المحكمة الدستورية في تأويل الدستور تأويلاً مركزياً يقضي على استقلالية «الهيئات المستقلة». دعونا نعاين الأمر عن كثب: لماذا ينص الدستور على أن هذه الهيئات «مستقلة». مستقلة عمّن؟ الدستور نفسه ينص على «استقلال القضاء». استقلال عمّن؟ كيف نفسر استقلال القضاء بأنه استقلال عن السلطة التنفيذية، على رغم وجود مبدأ تقسيم السلطات الكلاسيكي المعروف. السبب في هذا التوكيد هو أن الدولة العراقية انتهكت هذه الاستقلالية منذ 1958، أي بعد ثورة تموز، التي ألغت المحكمة الدستورية، وأحلت المحاكم العسكرية (العرفية) في التعاطي مع المعارضين السياسيين. واستمرت دولة البعث (1968 - 2003) في هذا التقليد. من هنا وجوب توكيد الدستور الجديد على استقلالية القضاء، على رغم أن هذه الاستقلالية تحصيل حاصل في أي نظام ديموقراطي. أما الهيئات المستقلة، وهي مؤسسات جديدة في بنية الدولة العراقية، فترمي الى حماية البنك المركزي، مثلاً، من تدخلات السلطة التنفيذية في إصدار العملات، الخاضعة لنواظم قانونية عالمية، هذه التدخلات التي أوصلت إلى قيام عدي صدام حسين بطباعة العملات العراقية من دون رقيب وتدمير قيمتها، أو تلاعب صدام حسين بالاحتياطي النقدي من العملات الصعبة، الضروري لحماية وضمان استقرار قيمة العملة العراقية، والحؤول دون تدهورها، وكذا الحال مع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. إذ لا يمكن السلطة التنفيذية إخضاع هذه الهيئة، لأن ذلك يعني القدرة على التلاعب بالعملية الانتخابية. ولما كانت للنخب الحاكمة مصلحة مباشرة في العملية الانتخابية لأجل استمرار بقائها، فإنها لا يمكن أن يكون مشاركاً في الانتخابات ومديراً العملية الانتخابية في آن واحد. فإدارة العملية هي مصلحة عامة، تحتاج الى الحيدة، والدخول في الانتخابات مصلحة حزبية خاصة تشترط الانحياز. هذا التصادم في المصالح هو أساس ابتكار هيئات غير حكومية وغير متحزبة لإدارة العملية الانتخابية. والحال نفسها مع الفساد. فالسلطة التنفيذية هي الهيئة المخولة تدبيرَ المال العام، وتحديد سبل وطرائق إنفاقه، والتصرف به. ولمنع أي خلل في هذه العملية ثمة حاجة لرقابة على هذا الجانب من عمل السلطة التنفيذية. ولا يمكن هذه الأخيرة ان تحاسب نفسها بنفسها. لا يمكن هيئة أو فرداً أن يسرق وأن يحاسب نفسه على السرقة. ولضمان الرقابة من خارج هيئات الحكومة جرى تأسيس هيئة النزاهة. وهو تدبير معمول به في سائر الدول الحديثة. وإن إلحاق هيئة النزاهة بمجلس الوزراء يدمر وظيفتها بالذات كهيئة رقابة على مؤسسات السلطة التنفيذية، التي تحتكر الإنفاق كما تحتكر الرقابة على الإنفاق. وهذا تعارض في المصالح (Conflict of interest). لقد ابتدع تقسيم السلطات بين التنفيذ والقضاء أول ما ابتدع في جمهوريات إيطاليا في القرون الوسطى، حيث كان حكام الجمهوريات يمارسون السلطة (التنفيذية والقضائية) ويمارسون أيضاً التجارة. ولما نشأت خلافات بينهم وبين التجار كانوا هم أنفسهم يتولون القضاء في نزاعات هم أنفسهم كانوا طرفاً فيها. وكان التجار يتساءلون: أشتكي منك عليك؟ من هذا التصادم في المصالح نشأ مطلب فك السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. إن العصر الحديث هو عصر المزيد من تقسيم السلطات كلما اتسعت وظائف الدولة. والمحكمة الدستورية في العراق ارتكبت خطأ فظيعاً في التساوق مع العقلية المركزية فأضعفت الهيئات المستقلة، وعليها الإسراع بفك ارتباط هذه الهيئات بالسلطة التنفيذية وربطها بالبرلمان، من جهة، وبمجلس القضاء الأعلى من جهة أخرى ولعل أفضل مؤسسة تربط هيئة النزاهة والهيئة العليا للانتخابات، هو السلطة القضائية، لتأمين إحالة كل الخروقات الممكنة (والموثقة) الى القضاء بعيداً من التدخلات المقيدة. ونحن نتحدث عن عشرات البلايين المنهوبة في بلد جريح، خرج لتوه من أربعة حروب، وحصار، واحتراب أهلي، وهو يتشوق الى عيش يليق بالبشر لا أكثر.