أخيراً وبعد طول انتظار، صادقت المحكمة الاتحادية على نتائج الانتخابات العراقية التي أُجّلت لأكثر من شهرين بسبب الخلاف السياسي بين القوائم الفائزة وعدم اتفاقها على من سيكون رئيس الوزراء المقبل، وهل يجب أن يكون من القائمة العراقية الفائزة بأكثر المقاعد (91)، أم من قائمة دولة القانون التي جاءت في المرتبة الثانية (89). لقد انتهت منذ فترة ليست بالقصيرة عملية إعادة العد والفرز في بغداد التي قررت مفوضية الانتخابات إجراءها بناء على توصية قضائية صدرت في أعقاب اعتراض قائمة دولة القانون بقيادة المالكي على نتائج الانتخابات. كما نظرت المفوضية في الطعون المقدمة من القوائم الانتخابية وأخذت ببعضها وردت البعض الآخر. ومن شأن المصادقة على النتائج أن تحرِّك العملية السياسية المتوقفة حالياً وتجبِر القوى السياسية على البدء بعملية تشكيل الحكومة. الرئيس الجديد سيكلّف بدوره مرشح الكتلة الانتخابية الأكثر عدداً بتشكيل الحكومة. تأخُّر المصادقة على النتائج يمكن أن يُفسَّر على أنه تدخل غير مباشر من القضاء في العملية السياسية ما كان عليه أن ينجر إليه، بل كان المطلوب منه أن يضع القوى السياسية الفائزة أمام مسؤولياتها الدستورية والانتخابية ويحمِلها على القيام بواجباتها تجاه الناخبين والدستور. الشهر الثالث منذ إجراء الانتخابات في 7 آذار (مارس) الماضي، ينقضي سريعاً، والشهر الرابع على الأبواب لكن الانفراج لا يزال بعيداً. مفتاح الأزمة هو المصادقة على النتائج، وطالما أن المصادقة قد حصلت الآن، فإن الكرة السياسية بدأت بالتدحرج ولكن من دون اتجاه واضح. حكومة المالكي ليست في عجلة من أمرها على ما يبدو، وهذا أمر يمكن تفهمه، فهي الآن تمتلك زمام الأمور وتحكم البلد من دون رقابة أو محاسبة برلمانية. الأخطر من ذلك أنها تتصرف وكأنها باقية في الحكم وتمتلك السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهذا خلل في الدستور تجب معالجته مستقبلاً، إذ لا بد من وجود مادة قانونية تحدد سلطة الحكومة في الفترة الانتقالية، ولا بد من حدود زمنية معينة تكتمل عندها عملية تسليم السلطة وتسلّمها كما هو الحال في أميركا مثلاً، حيث لا تتجاوز فترة ما يسمى ب «الرئاسة العرجاء» الثلاثة أشهر. إن هذا الخلل الدستوري يجعل من الممكن بقاء حكومة غير منتخبة في السلطة لفترة طويلة، بل يجعل من الممكن للحكومة أن تمدد فترة بقائها لأجل غير مسمى عبر الطعن بنتائج الانتخابات وإجبار المفوضية على إعادة عد الأصوات، وهذه العملية لم تسفر في النهاية عن تغيير يذكر في النتائج لمصلحة الكتلة المعترضة. وخلال الفترة الممتدة بين حل البرلمان السابق وعقد البرلمان الحالي، التي كان يجب أن تكون فترة تصريف شؤون لا تتخذ فيها الحكومة أي قرارات مهمة، بل تقتصر نشاطاتها على تسيير شؤون الدولة، اتخذت الحكومة إجراءات خطيرة، متجاوزة بذلك صلاحيات البرلمان الممنوحة له بموجب الدستور، ومن دون إخطار مجلس الرئاسة. من هذه الإجراءات على سبيل المثال محاولة إقالة رئيس هيئة دعاوى الملكية، أحمد البراك. فقد تسلم البراك قبل أيام كتاباً من الأمانة العامة لمجلس الوزراء موجهاً الى وزير الدولة لشؤون مجلس النواب، يدعوه عملياً إلى الانفكاك من عمله وتسليم مهماته الى شخص آخر في مخالفة واضحة للدستور وقانون الهيئة الصادر في نيسان (ابريل) الماضي اللذين يربطان الهيئة بمجلس النواب وليس بمجلس الوزراء. وأغرب ما في الكتاب أنه يسبِّب هذا الإجراء بوجود «مخالفات مالية وإدارية» ارتكبها رئيس الهيئة على رغم أنه غير مسبوق بها، كما يشير إلى «تحقيقات لهيئة النزاهة»، يزعم أنها أجريت مع البراك أو بحقه لكن الرجل لا يعلم بها، و «قرارات لمجلس القضاء الأعلى» على رغم أن الهيئة جهة إدارية ومجلس القضاء مسؤول عن عمل القضاة غير الإداريين بحسب المادة 91 من الدستور. لكن هدف الحكومة الحقيقي يبدو جلياً للمتابعين، وهو إزالة البراك من هذا المنصب المهم لأنه مستقل وغير تابع لأي حزب من أحزاب الحكومة ولأنه دخل الانتخابات الماضية في قائمة منافسة، ولأن اسمه قد طُرح أخيراً من جهات عدة، عراقية ودولية، كمرشح تسوية لرئاسة الوزراء باعتباره قانونياً وإدارياً كفياً وشخصاً مقبولاً عراقياً وعربياً ودولياً. لقد أدار البراك هيئة دعاوى الملكية بكفاءة عالية وأنجز ما يقارب 81000 دعوى خلال خمس سنوات ودفع تعويضات بلغت 320 مليار دينار (275 مليون دولار) للمتضررين من كل فئات الشعب العراقي من دون تمييز على أساس المذهب أو العرق أو المنطقة. استقلالية البراك وكفاءته ومهنيته ونزاهته هي المستهدفة، وإلا ما معنى أن تتخذ الحكومة إجراء من هذا القبيل وهي في أيامها الأخيرة ومن دون سند قانوني وفي غياب السلطة التشريعية؟ وهل من حقها، وقد انتهت ولايتها منذ 7 آذار، أن تتخذ إجراءات هي من صلاحيات مجلس النواب حصراً؟ في نيسان 2005 تولى إبراهيم الجعفري رئاسة الحكومة الانتقالية، ومن أول الإجراءات التي اتخذها، إلغاء تعيين كل من عيّنه سلفه الدكتور إياد علاوي بعد تاريخ انتهاء ولايته في 15 شباط (فبراير)، وكانت حجته أن حكومة علاوي كانت منتهية الولاية وما كان من حقها تعيين أي موظف بدرجة خاصة على رغم أن الدكتور علاوي دون غيره كان يمتلك السلطتين التشريعية والتنفيذية في آن معاً. لقد بدأت حكومة المالكي حكومة وحدة وطنية، لكنها أصبحت الآن حكومة تسيّرها كتلة سياسية واحدة، إذ غادر الكثير من الوزراء أحزابهم السابقة وانضموا الى كتلة رئيس الوزراء، ولكونها حكومة تصريف شؤون، فإن عليها ألا تتجاوز صلاحياتها في غياب السلطة التشريعية. الإجراءات التعسفية التي تُتخذ حالياً ضد أحمد البراك من شأنها أن تزعزع ثقة العراقيين وغيرهم بالنظام الديموقراطي الجديد وتشككهم بأهلية الحكومة الحالية وقدرتها على تطبيق القانون بعدالة. الفارق بين الدولة الديموقراطية وغيرها هو مدى الالتزام بالدستور والقانون وتطبيقهما في شكل عادل على الخصوم والموالين على حد سواء، وإلا فإن الدساتير والقوانين تبدو جميلة وعادلة من الناحية النظرية حتى في الدول البوليسية. كثيرون يعوّلون على الحكومة المقبلة في أن تصحح الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها الحكومة الحالية والتي سبقتها، ورد الاعتبار الى الكثير من الكفاءات العراقية والشخصيات الوطنية التي أسيء إليها عن قصد أو من دونه خلال السنوات الخمس الماضية.