لا يختلف اثنان على أن إسرائيل دولة محتلة قتلت مئات الأطفال والنساء الفلسطينيين بدم بارد في حروبها وعملياتها العسكرية تجاه الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وتقتل الفلسطيني حتى وهو جنين في رحم أمه بممارساتها الاحتلالية كل يوم. ولا يختلف اثنان أيضاً أنه طالما الاحتلال الإسرائيلي موجود، فالمقاومة الفلسطينية من أجل ضمان العيش بحرية هي عملية مشروعة بل حق لكل فلسطيني. لكن، وبغض النظر عن هوية منفذي عملية مستوطنة «ايتمار» التي قتلت فيها عائلة من خمسة أشخاص، بينهم ثلاثة أطفال، فهي عملية مرفوضة جملة وتفصيلاً وتوقيت تنفيذها يطرح تساؤلات عدة. ولعل المشكلة هي أن هذه العملية، على رغم عدم معرفة هوية منفذها حتى الآن، نفذت باسم الشعب الفلسطيني. فما يسمى ب «كتائب شهداء الأقصى – خلايا عماد مغنية»، التي تبنت العملية هي تنظيم فلسطيني منشق عن «فتح» ويوحي بقربه من حزب الله اللبناني، بحسب اسمه وتصريحاته. ولذلك، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، وقف على رأس حملة دولية واسعة لإلصاق هذه العملية بالفلسطينيين كلهم مدعياً أنها نتيجة طبيعية للتحريض على اليهود وعلى إسرائيل. ووزع وزير خارجيته صور الأطفال القتلى طعناً بالسكين بآلاف النسخ على وسائل الإعلام والحكومات ومنظمات المجتمع المدني في كل بلدان العالم، ليظهر العرب عموماً بصفتهم «قتلة أطفال متوحشين». وما من شك في أنه سيستخدم هذه المسألة حجة لتبرير سياسته العدوانية المتنكرة لمفاوضات السلام وسيحاول استخدامها لفك عزلة إسرائيل وإنقاذها من الأزمة التي تواجهها أمام المجتمع الدولي ومواصلة المشروع الاستيطاني التهويدي العنصري في الضفة والقدس وتحسين صورة حكومته بين المستوطنين وقوى التطرف اليميني، بعدما صادقت حكومته على بناء 500 وحدة سكنية كرد أولي على هذه العملية. وعلى رغم هذا القرار فإن المعارضة الدولية كانت خجولة واقتصرت على موقف من الإدارة الأميركية تحتج فيه على قرار البناء فيما تراجع المطلب لإسرائيل باتخاذ إجراءات عملية وفورية لتحريك عملية السلام. واليوم، بعد تنفيذ العملية بات الوضع مريحاً أكثر لنتانياهو. قبل تنفيذها كانت القيادة الإسرائيلية في حالة قلق وخوف من عزلة وحصار المجتمع الدولي، خصوصاً بعدما تم التصويت في مجلس الأمن على مشروع القرار الفلسطيني الذي دعا الى شجب البناء الاستيطاني. صحيح أن الفيتو الأميركي أنقذ إسرائيل لكن تصويت 14 دولة ضد السياسة الإسرائيلية عكس موقفاً دولياً غير مسبوق ضد إسرائيل وهو أمر دفعها الى نقاش حول كيفية تغيير صورتها في العالم وفك طوق العزلة عنها. ومن أبرز نتائج النقاشات الإسرائيلية في الآونة الأخيرة بلورة خطة سلام، كان متوقعاً أن يعرضها نتانياهو بعد أن بدأ محادثات لوضع هيكلية للخطة تنال تأييد أعضاء الرباعية وتؤدي الى نقل أوزان الضغط الى الساحة الفلسطينية. خطة تكون بمثابة خطاب «بار ايلان -2». وعلى رغم المخاوف، يدرك نتانياهو جيداً بأنه في الظروف الدولية الحالية لا يمكن لرئيس الحكومة أن يخرج بتصريحات تثير الخلاف حول التمسك بالمستوطنات وطرح أفكار عدة يكسب من خلالها المجتمع الدولي وأولئك الذين ساهموا في تراجع شعبيته والمستوطنين. واختار غور الأردن ليطلق من هناك موقفاً واضحاً «يريد السلام لكن مع أولوية أمن الدولة العبرية وسكانها، واعتبار البناء الاستيطاني حاجة ضرورية لا يمكن التنازل عنها». وبحسب شلومو تسزنا فإن نتانياهو سيقوم بعرض خطة سياسية تخرجه من العزلة الدولية وتساهم في تغيير الخطاب وتثبيت خطاب جديد أساسه الحفاظ على أمن إسرائيل وشرعية الاستيطان في القدس وفي الكتل الاستيطانية. هذه هي نقاط الإجماع الوطني في إسرائيل، بحسب ما يقول تسزنا ويضيف: «من ناحية دولية، أمن إسرائيل هو عنصر على مدى السنين واليوم أيضاً يحظى بدعم دولي مطلق. وبحسب نتانياهو فإن موازنة الدفاع يجب أن تزداد من دون صلة بالتقدم السياسية. «مع تسوية بالتأكيد ومن دون تسوية نفقات الأمن سترتفع في شكل كبير». وفي مناقشته لرؤية السلام المستقبلية لبلاده وضع نتانياهو الجانب الأمني في المركز وقال بكل صراحة انه في العقد الثاني من القرن ال 21 يجب إعطاء جواب على التهديدات التكنولوجية، والصواريخ، وانتشار القوات في المجال. وفي إطار اتفاق سلام ستكون إسرائيل ملزمة بوضع ترتيبات أمنية تقدم تعويضاً هاماً، بالوسائل والموازنات الخاصة من عموم الأسرة الدولية. في الماضي جرى حديث بأن إسرائيل ستحصل على طائرات قتالية من طراز أف-35، أما الآن فبات واضحاً أن هذه مجرد واحدة من عناصر «السترة الواقية» التي تطالب بها إسرائيل إذ أوضح نتانياهو في خطاباته حول الموضوع أن إسرائيل «دولة صغيرة مع احتياجات أمنية هائلة»، فيما قال وزير الدفاع، ايهود باراك، إن إسرائيل تحتاج الى مساعدات أميركية إضافية لشراء الأسلحة بقيمة 20 بليون دولار. وفي أقل من أسبوع بعد حديث نتانياهو وقعت عملية ايتمار وانقلب النقاش الإسرائيلي راساً على عقب وخرج المسؤولون من سياسيين وعسكريين بالترويج أن مثل هذه العملية تؤكد أن لا شريك فلسطينياً وأن الواقع يؤكد بأن الصراع اليوم بات على مجرد حق إسرائيل. وتحولت النشاطات الإسرائيلية الى حملة ترويج دولية تظهر فيها إسرائيل أنها الضحية والتهديدات الأمنية متواصلة بل تتصاعد ضدها فيما السلطة الفلسطينية لا تضع حداً لمظاهر كراهية إسرائيل، بخاصة التي تنعكس في كتب التعليم الفلسطينية ومجمل مناهج التعليم. وواجه نتايناهو مبادرات السلطة الفلسطينية في الساحة الدولية بمهاجمة قيادة السلطة، على رغم أن الكثيرين اعتبروا المواجهة على الساحة الدولية وربطها بعملية ايتمار إنما نشاط مفتعل لكن نتانياهو وجد من يدعمه من يمين ومستوطنين. أوري هايتنز من قيادة مستوطنات الجولان السوري المحتل استغل العملية ليجند المستوطنين لتكثيف الضغوط على نتانياهو لعدم التوجه نحو خطة سلام وقال: «العملية في ايتمار تؤكد أن الفلسطينيين غير مستعدين لقبول حقنا في الوجود وسيواصلون جهودهم لجعلنا نيأس ولكسر إرادتنا ورغبتنا في الحياة». وتوجه هاينتز الى المسؤولين بالقول: «إن من يقتل بدم بارد أولاداً في نومهم لا يفعل ذلك بسبب صراع على أراض. إنه لا يقتل لأنه يعتقد أن خط الحدود يجب أن يكون في هذا المكان لا في غيره، أو لأنه يعتقد أن جدار الفصل يجب ألا يسلب أرضاً خاصة في بلعين. وخلافاً لمواقف داعمة لخطة سلام إسرائيلية يرى هايتنز أن الخطر هو على الهدوء النسبي الذي تشهده المنطقة كون العامل المركزي والوحيد فيه هو الجيش الإسرائيلي. ويقول: «خرج الجيش الإسرائيلي في العقد الأخير ثلاث مرات لمحاربة «الإرهاب» الفتاك. في عملية «السور الواقي» وفي حرب لبنان الثانية وفي عملية «الرصاص المصبوب». إن هذه العمليات وأعمال الجيش الإسرائيلي اليومية و «الشباك» (الاستخبارات الإسرائيلية) في مدن الضفة، ومن ضمن ذلك وسائل دفاعية كالحواجز وجدار الأمن، هي التي أدت الى تراجع حاد لقدرة الفلسطيني على تنفيذ مؤامرته». وفي قيادة المستوطنات جعلوا من عملية القتل في ايتمار رافعة في حربهم ضد نتانياهو وهو ما دفعه الى الإعلان عن بناء خمسمئة وحدة سكنية كرد على العملية لكن هذا أيضاً لم يرض المستوطنين وبرأيهم لا يتم البناء بما يكفي في المستوطنات. وتوقعوا بأن يولد القتل ما يسمى «الرد الصهيوني المناسب» وهو زخم بناء كبير في الضفة كلها، وراحوا يمارسون اعتداءات انتقامية على البلدات الفلسطينية من دون تدخل الجيش لمنعهم, وبنوا بؤرة استيطانية جديدة في المستعمرة نفسها. الناقد اسحق ليئور يقول إن تعليل إسرائيل لبناء خمسمئة وحدة بالعملية في اتيمار أمر مرفوض لأنها لم تتوقف يوماً عن البناء بل إنها ترى مشروع الاستيطان فكرة أبدية لا يمكن التخلي عنها مهما بلغت كلفتها، والإعلان عن البناء جاء كجانب من جوانب استغلال عملية ايتمار. ولم يترك نتانياهو جانباً إلا واستغله فسارع الى الحرب على السلطة كفرصة «لإحراز إنجازات إعلامية» بقوله ليست سياسة الاستيطان عقبة أمام السلام. «قبل العملية وبعد العملية، يقول ليئور إن البناء مستمر وأصبح استغلالاً آخر للفرصة. وليس له، مثل غوغائية نتانياهو ورؤساء المستوطنين في الحقيقة أي صلة بالدم أو العقوبة». ويرى ليئور أن الحملة التي يخوضها نتانياهو وحكومته بعد عملية «ايتمار» ستورط إسرائيل في وضع أكثر خطورة مما هي عليه اليوم. وهناك في إسرائيل من وصل الى أبعد من موقف ليئور إذ يرى الون عيدان أن رد نتانياهو على عملية «ايتمار» بشعار «هم يقتلون ونحن نبني»، يشير الى أن البناء هو جريمة خطيرة لا تقل عن جريمة القتل. وبرأيه، فإن ما طرحه نتايناهو يشكل معادلة خطيرة تبين أن حكومة نتانياهو، الأكثر يمينية بين جميع حكومات إسرائيل، على حد رأيه، ترى البناء في المناطق موازياً للمس بقلب السكان الفلسطينيين. وبحسب المعادلة يساوي رفع سكين بناء جدار، وتساوي نفس الإنسان مئة وحدة سكنية. وكان الأكثر حدة في رؤيته، ايتان هابر وهو الذي شغل منصب مدير عام ديوان رئيس الوزراء في عهد حكومة اسحق رابين، فكتب يقول: «الرد الغريزي لكل مواطن إسرائيلي تقريباً أمس، مع صدور النبأ عن القتل الشنيع لعائلة بوغل كان على النحو الآتي: حسناً، هل تريد أن توقع اتفاقاً وتصنع سلاماً مع هؤلاء الفلسطينيين؟ ولكن جواب الموقع أعلاه على السؤال الذي يكاد يكون كل إسرائيل سأله أمس هو: نعم! مع هؤلاء الفلسطينيين، حتى عندما تكون أفعالهم – وللدقة لقسم منهم – نكراء، فإن علينا أن نتوصل الى مصالحة وسلام. ويمكن عمل ذلك، بالمناسبة، مع ابتلاع أقراص ضد التقيؤ. ولكن يجب عمل ما ينبغي عمله. إذ إن السؤال الذي يتعين على كل واحد منا أن يسأله لنفسه بعد القتل الفظيع هو: أي بديل يوجد لمن يرفض السعي نحو السلام؟ مئة سنة أخرى من الإرهاب والدم». ويضيف هابر إن القتل في ايتمار جاء بعد سنة من وقف النار، ويذكر بأن نتانياهو تباهى مؤخراً بأن هذه كانت السنة الأكثر هدوءاً منذ عقد من الزمان. و «هذا هراء. فمع كل الاحترام والاعتزاز بالجيش الإسرائيلي، الاستخبارات والشرطة الذين قاموا بالفعل بعمل رائع، فإن وقف الإرهاب كان ثمرة قرار فلسطيني. ببساطة تعلموا من التجربة. بدلاً من إثارة العالم بأكمله عليهم لفظائع المخربين الانتحاريين، توجهوا الى النشاط السياسي المكثف، وهكذا نالوا دعماً دولياً مثيراً للانطباع. ولكن، في أيلول القريب ستعترف 140 دولة، على الأقل، بدولة فلسطينية على أساس حدود 67، منزوعة السلاح. ونحن؟ نحن سنشجب، ونصرخ، وكل دولة ستوافق على أن تخرج من قائمة ال 140 ستصبح في نظرنا عزيزة أمم العالم. كل صوت أقل – انتصار. ممثل ماكرونيزيا سيتغيب عن التصويت؟ ممثل جزر بلاو سيمتنع عن التصويت؟ ما أحلاه. وها هو لا يزال يوجد لدينا أصدقاء. هنا وهناك. وبالأساس هناك».