عندما غادر المخرج الألماني - النمساوي فريتز لانغ ألمانيا، هرباً من احتمال اضطهاد النازيين له، خلّف وراءه زوجته وشريكته في أفلامه، ككاتبة للسيناريو، تيا فون هاربو، التي كانت قد انضمّت إلى الحزب النازي ولم تجد سبباً يدفعها إلى مغادرة البلاد بالطريق التي غادر بها فريتز. ومن هنا بات في إمكان الرجل، حين جوبه في فرنسا ثم في الولاياتالمتحدة بأن أفلامه التي حققها في ألمانيا، ولاسيما «متروبوليس» ثم «الجواسيس» تشتم منها رائحة نازية، أن يقول إنها كانت من تأليف زوجته وهو حققها دون اقتناع والغريب في الأمر أن الذين استمعوا إليه يؤكد ذلك صدقوه على الفور وراحوا يتعاملون معه تعاملهم مع بقية المثقفين المضطهدين الهاربين من الجحيم النازي. وهذا ما أتاح له أن يحقق في «العالم الحر» أفلاماً تهاجم النازية وهو مرتاح البال. مهما يكن فإن لانغ نفسه أشاع حكاية تقول إن جوزيف غوبلز، وزير الدعاية والمسؤول عن الثقافة في ألمانيا النازية، استدعاه يوماً إلى مكتبه ليزفّ إليه خبرين: أولهما أن فيلمه «وصية الدكتور مابوزي» (1933) قد منع للاشتباه بأن من شأنه أن يهبط الروح المعنوية لدى الشعب الألماني، وثانيهما انه هو نفسه - أي لانغ - قد اختير لرئاسة هيئة السينما في الحكومة. «في تلك الساعة لم يكن غوبلز يعرف أنني أعددت العدة لمبارحة ألمانيا نهائياً»، يضيف لانغ إلى تلك الحكاية ضاحكاً، قائلاً في الوقت نفسه إن من بين استعداداته، كان طلاقه لزوجته، وطبعاً حتى اليوم لا يعرف احد بالتمام صحة هذه الحكاية أو على الأقل صحة تفاصيلها وإن كان من المؤكد أن اجتماعاً له ذلك المضمون عقد حقاً بين فريتز لانغ وغوبلز وبالتحديد قبل فترة يسيرة من مبارحة لانغ ألمانيا. غير أن هذا كله لن يمنعنا بالطبع عن التأكيد أن فيلم «الجواسيس» (1928) الذي ذكرناه أعلاه، كان على أي حال واحداً من اكثر أفلام مرحلة لانغ الألمانية قبولاً لدى النازيين، حتى من قبل وصولهم إلى السلطة. ذلك أن الفيلم كان يحمل نوعاً من الفضح لمؤسسات التجسس السوفياتية، في وقت كان الاتحاد السوفياتي يعتبر العدو رقم واحد للنازيين. واليوم، مهما كان رأينا السياسي في هذا الفيلم، لا بد من الإشارة إلى انه يعتبر «الأب الشرعي» لكل أفلام سينما التجسس التي حققت لاحقاً، بما في ذلك أفلام ألفريد هيتشكوك الإنكليزية ثم الأميركية. فالعديد من العناصر التي شكل لانغ منها فيلمه، ستوجد لاحقاً في أفلام هتشكوك وغيره: المزج بين التجسس والحب لإيجاد مكان للمرأة في الفيلم، المنظمة السرية التي يعمل رئيسها تحت غطاء مدني. دوائر الاستخبارات التي تستعين بفرد مميز لكشف الحقائق. الوجود الحاسم لمؤامرة اغتيال وقطار. لعبة العملاء المزدوجين وسلوك الدروب الخاطئة التي لا تؤدي إلى أي مكان. إضافة إلى عنصر الصفقات التي تعقد بين منظمات وهيئات متناحرة ذات لحظة. هذا كله موجود في هذا الفيلم الذي حققه فريتز لانغ في ألمانيا عن سيناريو كتبته تيا فون هاربو، تسير فيه حرفياً تبعاً لخطوط رواية كانت نشرتها قبل ذلك ونالت نجاحاً. ولكن فيما نجد في الرواية الدول مسماة بأسمائها، نجدها في الفيلم تحمل أسماء مستعارة، بدءاً من البلد الذي تدور حوله الأحداث الرئيسية: نوفونيا. وأحداث الفيلم تبدأ على أية حال في قنصلية «نوفونيا» هذه حيث، في مشهد ليلي، يدخل مجهولون ليكسروا باب الخزنة السرية ويستولوا على وثائق سنعرف غداً أنها فائقة الأهمية، كما سنعرف أن الاشتباه يدور من حول منظمة شديدة السرية تشتغل في بلدان أوروبا الوسطى. أما سرقة الوثائق، فإنها ستأتي متزامنة مع مقتل دبلوماسي بشكل غامض، لدفع وزارة الداخلية إلى تكليف واحد من ابرع رجالها بالتحري حول الأمر... لكن هذا يفشل، ما يدفع الوزارة إلى تكليف العميل 326 بالمهمة، ويدعى دونالد تريمان. في الوقت نفسه يكون الفيلم قد كشف لنا شخصية زعيم شبكة التجسس المدعو حاجي، وهو في الحياة العامة صاحب مصرف ناجح، لكنه مصاب بعاهة جسدية. ولعل اكثر ما يلفتنا هنا هو الإشارة التي يزرعها فريتز لانغ إذ يجعل لحاجي هذا، لحية صغيرة تجعله شبيهاً بتروتسكي (مؤسس الجيش الأحمر الروسي) كل الشبه. وهو أمر لا يمكن بأية حال أن يكون صدفة علماً بأن الخلافات العميقة بين ستالين وتروتسكي لم تكن بعد قد ظهرت إلى العلن. وحاجي هذا، ما إن يعلم بتكليف تريمان بملاحقته، حتى يكلف واحدة من عميلاته، الحسناء المدعوة صونيا، بملاحقة تريمان. والذي يحدث هنا هو أن صونيا وتريمان ما إن يلتقيا حتى يغرما ببعضهما البعض. وبعد تردد تقرر صونيا أن تطلب من حاجي إعفاءها من المهمة. لكنه يرفض مجبراً إياها على متابعة العمل الذي كلّفت به. ومنذ تلك اللحظة يصبح الفيلم عبارة عن لقاءات غامضة، وأحداث اكثر غموضاً ومطاردات، وتتداخل أجهزة عديدة، من بينها الجهاز السري الياباني الذي يكلف عميله ماتسوموتو إبلاغ تريمان بأن صونيا هي عميلة سرية تتجسس عليه. ويأتي هذا في الوقت نفسه الذي يقع فيه العميل الياباني في غرام عميلة أخرى من عميلات حاجي، وهو سرعان ما ينتحر حين يدرك أن هذه الأخيرة قد أوقعت به وفشّلت مهمته بعد أن استولت على مجموعة من الوثائق كانت في حوزته. وهذه العميلة، وتدعى كيتي، سرعان ما تسلم الوثائق إلى حاجي الذي يعطيها في المقابل مجموعة لآلئ كان من المفترض أن تحصل عليها صونيا لقاء خدماتها. لكن صونيا، خانت بسبب غرامها. ومع هذا سيسامحها رئيسها حاجي ويدعها تعيش في سلام إن هي أسدت إليه خدمة أخيرة: تمرير الوثائق إلى خارج البلد. وتقبل صونيا، شرط ألا يؤذي حاجي حبيبها تريمان. فيقبل هذا الشرط، وهو يُضمِر - طبعاً- توجهاً آخر. غير أن صونيا، التي تدرك ما يخطط له حاجي، تُفشل الخطة، في الوقت الذي يكون تريمان قد اشتبه أخيراً بأن المصرفي المعاق حاجي، هو زعيم المنظمة، وأنه قبض على صونيا وقيدها بالسلاسل داخل المصرف مهدداً بنسف المبنى. وإذ يتمكن تريمان من إنقاذ صونيا وقد أدرك براءتها، يطارد حاجي حتى يدخل هذا الأخير مسرح منوعات، حيث يقدم المهرج نيمو عرضه أمام الجمهور. وفي الداخل يكتشف تريمان ورجال الشرطة أن حاجي ونيمو شخص واحد. وإذ يفهم هذا أن أمره انكشف لا يكون أمامه إلا أن ينتحر ويسقط ميتاً وهو مرتد زي المهرج نيمو، فيما يعتقد الحضور أن سقوط المهرج إنما هو جزء من العرض. تلك هي، في اختصار، حكاية فيلم «الجواسيس» لفريتز لانغ، الفيلم الذي رسم الخطوط الأساسية لمعظم أفلام التجسس التي أتت من بعده. أما بالنسبة إلى فريتز لانغ، فإنه حققه مباشرة بعد فيلمه الكبير «متروبوليس» الذي يوضع دائماً من قبل النقاد والمؤرخين في قائمة افضل عشرين فيلماً في تاريخ الفن السابع، مع أن فيه الكثير من الالتباس الفكري، ما جعله - من ناحية أخرى- يعتبر فيلماً نازياً. أما بالنسبة إلى «الجواسيس» فإن لانغ تخلى فيه عن أسلوبه التعبيري، أي التضخيمي الذي طبعه كما طبع أفلامه الأولى، ولاسيما «متروبوليس» ليخوض سينما واقعية - شعبية، كانت فاتحة لكل سينماه المقبلة، حتى وإن كان على الفيلم - إذ كان صامتاً، لأن السينما الناطقة لم تصل ألمانيا إلا في العام التالي لتحقيقه - أن يلجأ إلى المبالغة في التعبير التمثيلي. أما بالنسبة إلى سيرة فريتزلانغ، فإنه ولد في فيينا عام 1890، واشتغل منذ بداياته السينمائية بين العاصمة النمساوية وبرلين ثم تنقل بين فرنساوالولاياتالمتحدة ومن ثم عاد إلى ألمانيا حيث حقّق آخر أفلامه، ليرحل عن عالمنا بعد ذلك في كاليفورنيا عام 1976، مكللاً بمجد سينمائي كان من الأهمية والجدية والتنوع بحيث أن التاريخ غفر له بداياته النازية، أو الملتبسة على الأقل. ولانغ الذي ولد كاثوليكياً، على رغم أن امه كانت يهودية سرعان ما اعتنقت الكاثوليكية حين انجبته، بدأ حياته في دراسة الهندسة المدنية التي تلوح آثارها في ديكورات أفلامه، لكنه سرعان ما تحول إلى دراسة الفن وبالتحديد فن المسرح ثم فن السينما، حيث سرعان ما برز كاتباً ومخرجاً ولا سيما في الفترة بين عشرينات القرن العشرين وثلاثيناته ثم حين شعر أن ليس في وسعه أكثر من ذلك التعايش مع النازية، سافر إلى فرنسا حيث حقق بعض الأعمال ليرحل بعد ذلك نهائياً إلى الولاياتالمتحدة حيث عاش وعمل حتى آخر حياته، محققاً عدداً كبيراً من الأفلام التي استعاد في بعضها مواضيع وأجواء أفلامه الألمانية. [email protected]