لماذا يهاجر مثقّف من بلده على رغم مراوحة جُمَله وأفكاره بين المنطق والأخلاق والفلسفة؟ والسؤال الأبسط الذي يطرحه عندما يصادف عاملاً مهاجراً أيضاً من البلد ذاته أو من بلد مشابه: ما الذي دفع به إلى ترك الوطن؟ الهجرة هي اضطرارية في نص مسرحية «المهاجران» (1974) إحدى أكثر مسرحيات الكاتب البولوني سوافومير مروجيك تشريحاً للشخصيات بالأسئلة الشائكة. ومروجيك نفسه عانى الهجرة والنظام الشمولي في بولونيا بعد انقسام العالم إلى معسكرين خلال الحرب الباردة، وكتب من وحي ذلك في «المهاجران» عن علاقة مأزومة بين رجل مثقف وآخر عامل، في نوع من السخرية القاتمة المسيطرة على حياتهما اليومية، وحدد الزمن في ليلة رأس السنة. ترجم سامر عمران (حاز عام 1998 دكتوراه في الإخراج المسرحي من أكاديمية «سولسكي» للفنون المسرحية في بولونيا) النص إلى اللغة العربية للمرة الأولى، وتابع إخراجه ووضع السينوغرافيا فيه عام 2008 ضمن برنامج دمشق عاصمة ثقافية، ورافقه ممثل واحد (محمد آل رشي) بدور العامل، بينما اختار أن يقوم هو بالدور الآخر (المثقف) رغم قناعته بأن على المخرج البقاء محايداً قليلاً. يعلن عمران حالة تأهب وقلق منذ أمسك المرء ببطاقته لدخول العرض في ملجأ القزازين في دمشق، الواقع خلف مقبرة شهيرة في العاصمة «الدحداح». فقد كتب جملاً حاسمة، منها أن العرض مدته ساعتان ونيف، والمكان بارد، وأن من الصعب الخروج والدخول أثناء العرض. وبالفعل يستغني المخرج عن العلبة الإيطالية، ليحصر نحو ستين متفرجاً على مدرجين صغيرين متقابلين، في غرفة داخل القبو الرطب، وفي المنتصف أشياء المهاجرين (سريران وأنابيب في السقف ومجارير الطبقات العليا). وقرر عمران الاستمرار بالعرض حتى نهاية آذار (مارس) الحالي كنوع من دعم لفكرة الريبارتوار المسرحي السوري ليصل عدد مرات تقديم المسرحية إلى نحو مئة مرة، منذ أيلول 2008، كان من بينها عروض في بينالي الشارقة، ومهرجان فوانيس المسرحي في عمان، ومهرجان المسرح العربي في القاهرة، ومهرجان ربيع بيروت 2010. المسافة بين الممثلَينِ والجمهور معدومة، يكادان يهمسان «صه» كلما زادت الضحكات، فالمكان البديل جعل واقعية النص تفرض نفسها على نحوٍ خانق أحياناً، خفف بالهزل فقط، ورغم أن مروجيك كتب النص لمسرح تقليدي إلا أن المخرج أراد للمشاهد المتتالية والحدث الميلودرامي أن تتأزم في مكان مناسب لمناخ العزلة والتهميش وهو ما عاشته الشخصيتان بقسوة. حتى المياه المتسربة نقطاً كانت واقعية في تصميم الديكور، إذ وضع خزان في الأعلى، لتنفيذ العملية البطيئة، وهي ليست المرة الأولى، للخروج عن أساسيات المسرح، فقد حذف عمران سابقاً (عميد المعهد العالي للفنون المسرحية من عام 2002 حتى عام 2006) في إخراجه نصاً آخر لمروجيك «الحدث السعيد» جانبي المسرح، وخرج أيضاً إلى طرقات قرية حصين البحر ليعرض مسرحية «عابرون» المقتبسة من نص الكاتب البلجيكي «موريس ميترلنك» (العميان) في آخر احتفاء أقيم في ذكرى سعد الله ونوس. الحلم وما هو غير متاح في الحوار ذي الجمل القصيرة، كان أساسياً لدى شخصية العامل تحديداً، فهو من لحظة دخوله يتحدث عن لقاء في محطة القطار مع امرأة مثيرة. هو مراوغ في تحديه للقرف من حوله، في استحضار شيء جميل من بين رداءة مكانه (الملجأ)، يريد أن ينسى الثقوب في جواربه، وجُمَل صديق سكنه (المثقف) ليعلن جمال العالم وسهولة العيش، يقترض حياته ابتداء من المعلبات وانتهاء بالأفكار. أما المثقف فهو حاد جداً وليس نسخة طبق الأصل عن المثقف بنسخته العالمية، لكنه غير متسلط بل هارب من القمع، يسكت طوال الوقت، ثم لا يصمت، يوجه توتره نحو الآخر. كيف يمكن أن يلوم شخصاً عاقلاً عاملاً لأنه يبقى ساعات طويلة على آلة الحفر؟ بالطبع يعلم أي شخص ساذج الضررَ الذي سيسببه عراك قطعة حديد مدة سنوات، لكن المال هو غاية العامل، الهجرة الأخرى لدى المثقف، كانت سياحة أيضاً، لكنها بمعنى آخر بلا نهم للنساء أو الطعام، إنها حالة من استقراء الذات والآخر. يمتد زمن العرض أكثرَ مما هو مقرر، بنصف ساعة، وأدى الاحتدام في الأسئلة بين الشخصيتين إلى نوع من الارتجال، أو المماطلة في النهاية، لحظة قرارهما شرب نخب العام وبعد انقطاع التيار الكهربائي، فيما تستمر أصوات الاحتفال الآتية من الأعلى، يذكر بمناخ القبو المعزول وواقعيته القاسية بالنقطة الأساسية في فيلم المخرج الصربي أمير كوستوريتسا «تحت الأرض» إذ تقبع الشخصيات بمنطقها القديم وكأنها خارج الكون غير دارية بالأحداث الحقيقية الجارية. تحديد المكان غائب عن «المهاجران» ما يقوي الفكرة، في أن مروجيك أبعد اللغة الممتلئة بالمعلومات، وأتاح المجال للمشاعر، والحركة الفكرية الداخلية للممثلين، فلا ملامح حتى لسلطة المخابرات، إنما هي سلطة قمعية وحسب. واستفاد عمران من أطروحته «الجسد - الفراغ» في تقويم صغر المكان ليناسب اتساع حدود الحوار، وحاجة الممثل إلى السير خطوات عديدة على الخشبة، ولتفريغ الجدل والمشادة بين الشخصيتين. فالعامل يعرف أن الدونية موجودة في نظرة المثقف، المتهم إياه بكونه عبداً، والمؤلف كتاباً عنه خفية. ولكن من العبد هنا، العامل الذي يشتري خطأ طعام الكلاب، أم المثقف الذي لن يستطيع العودة إلى وطنه؟