إذا كانت لغة ايليا سليمان السينمائية المميزة والطليعية قد عجزت عن أن تلفت أنظار المتفرجين العرب حين شارك سليمان بمقطع من فيلم «حرب الخليج وبعدين...؟» الجماعي الذي حقق أوائل تسعينات القرن الفائت، أولاً بسبب الجدة المطلقة لتلك اللغة، ثم بسبب ايديولوجية توجه الفيلم ككل، فإن هذه اللغة فرضت حضورها منذ روائيّه الطويل الأول «سجل اختفاء» الذي كان مفاجأة فنية وفلسطينية كبيرة في الوقت نفسه. قبل «سجل اختفاء» (1996) كان هناك جديد حقيقي قد بدأ يفرض حضوره في السينما الفلسطينية، على انقاض كل تلك الأعمال الإيديولوجية ذات القبضات المرفوعة والشعارات الصاخبة التي كانت تنطق باسم فلسطين على الشاشات. لكن «سجل اختفاء» جاء ليقول فلسطين ب «لغة» مغايرة، بموضوعات مشتتة، بحداثة مدهشة، وبمرجعية سينمائية لافتة. ثم بخاصة بحضور المخرج/ الذات، صورة وصمتاً وسخرية ومرارة. كثر رفضوا هذا الأسلوب حينذاك... ولكن بالتدريج، وبعدما أدهش «سجل الاختفاء» النقد الخارجي، راح «النقد» والجمهور، الداخلي أيضاً، يتقبلانه. وبدأ سليمان، المولود في الناصرة والحامل، قسراً الجنسية الإسرائيلية (كما كل الذين يسمون «عرب اسرائيل» وينتمي هو اليهم)، يفرض حضور سينماه، عبر أفلام قصيرة وحضور شخصي لافت (عبر «حلم عربي» 1998 ثم «سيبر فلسطين» 2000) حتى كان «يد إلهية» في العام 2002، والذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» السينمائي في ذلك العام، لينال جائزة لجنة التحكيم الكبرى - التي تعتبر ثاني أكبر جوائز المهرجان بعد «السعفة الذهبية»، بل يرى كثر انها أكثر أهمية من «السعفة» لأنها اختيار المحكمين الذي لا يخضع لاعتبارات غير فنية، لكن هذه حكاية أخرى -. المهم ان فوز «يد إلهية» بتلك الجائزة، ثم بعدد كبير من الجوائز العالمية من بعدها، رسخ اسم فلسطين بين البلدان صاحبة الحداثة السينمائية، كما رسخ لفلسطين سينما جديدة تليق ببدايات القرن الجديد، ولا سيما بفضل تخلصها من الفصاحة الإيديولوجية، بل حتى بفضل وقوفها المطلق والمعلن ضد هذه الفصاحة. صار ايليا سليمان، من الذين يحسب حسابهم، ليس فقط في السينما الفلسطينية الناهضة (الى جانب ميشيل خليفي وهاني أبو أسعد ومي مصري ورشيد مشهراوي ثم أكثر قرباً منا ماري - آن جاسر ونجوى نجار وصولاً الى شيرين دعيبس)، ولا في السينما الجديدة العربية، بل كذلك في السينما الحديثة في العالم، تشهد على هذا مشاركته في العمل الجماعي «لكل سينماه»، الذي جمع في واحدة من آخر دورات «كان» (ولمناسبة ستينات هذا الأخير) أكثر من ثلاثين مخرجاً عالمياً، أعطاهم جيل جاكوب فرصة التعبير في 3 دقائق لكل منهم عن علاقته بالسينما. واليوم، بعد ثلاثة عشر عاماً على عرض «سجل اختفاء» وسبعة أعوام على «يد إلهية»، ها هو ايليا سليمان يستكمل ثلاثيته الفلسطينية الذاتية ب «الزمن الباقي»، هذا الفيلم - حتى وان كان لم يفز بأي جائزة في «كان» - يقود صاحبه خطوات أخرى على طريق تجديد سينمائي متواصل، وعلى طريق يتفحص، ولو مواربة، علاقة الفنان بفلسطينه، طارحاً على هذا المبدع، إذ يستكمل هنا ما يمكننا اعتباره سيرته الذاتية خلال سيرة والديه، السؤال الصعب: وماذا بعد؟