لم يكف العرب عبر تاريخهم عن طرح الأسئلة المتعلقة بقواعد لغتهم الصعبة وطرائق تقريبها إلى أذهان الدارسين وطالبي العلم والمنكبين على معرفة اللغة وإتقانها. ولم يكتفوا بتأليف الكتب النحوية النثرية التي وضعها مؤسسون رياديون من أمثال أبو الأسود الدؤلي والكسائي وسيبويه وغيرهم، بل عمل بعض الذين أوتوا ملكة الإيقاع على وضع النحو العربي في منظومات موزونة أسهمت، على تفاوت مستوياتها، في نقل النحو العربي من سياقه الجامد وتحويله إلى أبيات ومقطوعات يسهل حفظها وتردادها والافادة من مضامينها. وإذا كانت ألفية ابن مالك هي العمل الأكثر شهرة الذي علق في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، فإن منظومات كثيرة مماثلة لم تأخذ طريقها إلى الشهرة، على رغم أهمية بعضها على المستويين العلمي والتأليفي. وقد أحصى الباحث السعودي حسان بن عبدالله الغنيمان في كتابه المميز «المنظومات النحوية وأثرها في تعليم النحو» أكثر من مئة وأربعين منظومة وضعها نحاة عرب بين القرنين الثالث والعاشر الهجري. أما الغاية من هذه المحاولات فتوزعت بين النزوع التعليمي البحت من جهة، وبين التمرين على النظم والتفنن التأليفي من جهة أخرى. وليست الرغبة في الشهرة بعيدة بدورها من الكثير من هذه التجارب. لكنّ الأمر الذي يستوقفنا لدى قراءة هذه المنظومات هو إيغال بعضها في التعقيد والتقعر بما يجعل فهمها مقتصراً على النخب الضليعة في اللغة وأسرارها، وهو ما يؤكد أن الغاية التعليمية ليست في صدارة هواجس الذين أقدموا على مثل هذه المحاولات، وفي طليعتهم ابن مالك ذاته (600 – 688 للهجرة)، الذي وضع منظومته على بحر الرجز وتنويعاته، والذي تجاوز عدد شارحي ألفيته، ذات التسعمئة وثمانية وثمانين بيتاً، الأربعين دارساً. كما أن قلة من الراسخين في اللغة يستطيعون أن يفقهوا تراكيب وشواهد نحوية، من مثل «وشرط ذا الإعراب أن يضفن لا\ لليا كجا أخو أبيك ذا اعتلا\ كذا أولات والذي اسماً قد جعل\ كأذرعات فيه ذا أيضاً قبل». بحر غنائي أما منظومة أبو محمد القاسم الحريري الذي سبق ابن مالك بعقود عدة، فتنحو بالمقابل إلى وضوح أكبر وإلى المزيد من الليونة اللغوية والاعتماد الدائم على الشواهد والشروح، كقوله في الاسم المنقوص «والياء في القاضي وفي المستشري/ ساكنة في رفعها والجرّ/ وتُفتح الياء إذا ما نُصبا/ نحو: لقيتُ القاضيَ المهذبا». أما حازم القرطاجني، فقد نحا أكثر من سواه إلى تطعيم النظم بالشعر والصور الطريفة كقوله في باب «إن وأخواتها»: «ف» إنّ «أنّ لها أختٌ مذ ارتضعا\ ثدي التشبّه بالأفعال ما فُطما». كما أن القرطاجني المعاصر لابن مالك اختار البحر البسيط لتأليف منظومته التي تربو بقليل على المئتي بيت، وهو بحر غنائي بامتياز ويستجيب لمتطلبات النفس وتواشجات الإيقاع وتلويناته. قبل الدخول في مناخات المقاربة الجديدة وتفاصيلها لا بد أن يستوقفنا كون معظم الذين اشتغلوا على نظم القواعد العربية لم يكونوا من «المكرسين» أو المنقطعين كلياً لكتابة الشعر، بل كانوا من النحاة والنقاد والمشتغلين باللغة ممن امتلكوا ناصية البحور والأوزان. وهو أمر لا ينسحب إلا جزئياً على بيضون الذي- على رغم تكريسه جل حياته لمهنة المحاماة- فهو لم ينقطع عن كتابة الشعر. واللافت في محاولة ناجي بيضون الجديدة هو بساطة لغتها وسلاسة تراكيبها وأوزانها، وابتعادها من التقعر والإغراب الذي حكم الكثير من المحاولات السابقة. وهو أمر طبيعي في ظل الفارق الزمني الواسع بينها وبين سابقاتها. ولعلّ استمراء المؤلف للفظة «الألفية» في توصيف عمله الجديد لم يكن سوى من باب التناص مع محاولة ابن مالك - الأشهر في هذا المجال- لأن العدد الفعلي لأبيات «الألفية العصرية» لم يتجاوز إلا بقليل الأبيات السبعمئة التي وزعت محتوياتها على ما يقارب المئتي صفحة وستة وستين مقطوعة تتناول منها باباً من أبواب الصرف أو النحو. وقد استهل بيضون مقدمته التوضيحية بالقول «إن تقديم اللغة العربية بقوالب شعرية يسهل غناؤها وحفظها يجعل من التقدم بهذه المنظومة عملاً يمكن الاستفادة منه ولحماية لغتنا وإنقاذها». يستهل صاحب «كاريكاتور بالكلمات» عمله الجديد، شأنه شأن سلفه ابن مالك، بالإشارة إلى الأقانيم الثلاثة التي يتألف منها الكلام العربي «لكلامٍ في لغة الضادِ\ سقفٌ بثلاثة أوتادِ\ ويُشدُّ ليستويَ السقفُ\ اسمٌ أو فعلٌ أو حرفُ». على أن ما يميز الحفيد عن الجد هو إلحاحه على حقن القواعد الجامدة ببعض الصور المجازية التي تبدو تمثلاتها واضحة تماماً في المقطع السابق . كما يحرص المؤلف على نقل مناخ الطرافة الذي يشيع في أعماله كافة، رغبة منه في التخفيف من وطأة المادة المتناولة على الطلاب. تحت عنوان اسم المصدر يقول بيضون «طلّق تطليقاً وطلاقاً\ المصدر بالاسم تلاقى\ وطلاقُ المرء قرينتهُ\ عملٌ لا يرضي الخلّاقا». وتحت باب الفاعل يحرص المؤلف على إشاعة مناخ مشابه عبر تقديم الشواهد المتصلة بتقديم الفاعل على مفعوله أو تأخيره عنه، فيقول «والفاعل يستبق المفعولْ\ إن حار القارئ في المدلولْ\ مثلاً : أكل الكوسى موسى\ لا لبْس بمن أكل الآخرْ\ أما بهَجا موسى عيسى\ لبْسٌ في الفاعل لا يُحزرْ». كما تنسحب روح الدعابة هذه على الباب المتعلق بأدوات الجزم، فيقول المؤلف «والفعل عصيٌّ موقعهُ\ لكنّ الجزم وغيرها. على أن النصوص الآنفة الذكر ليست شواهد على تمرس بيضون بالكتابة الساخرة فحسب، بل هي تشهد في الآن ذاته على اضطلاعه ببحور الشعر العربي وأوزانه، وبخاصة تلك التي تتسم بالإنشاد الغنائي والتطريبي. ولعل اختياره للخبب، ذي الإيقاع الراقص، لم يكن بمحض المصادفة، بل بهدف شد انتباه القراء وتسهيل حفظ المقطوعات عليهم. وإذا كان إيقاع البحر السادس عشر من بحور الشعر العربي يذكرنا في بعض وجوهه بالموشحات الأندلسية، فإن المؤلف يغادره أحياناً ليعزف على وتر البحر الكامل، كقوله في باب الحال «وجوابُ كيف إذا طرحت سؤالاً\ كان الجواب عن التساؤل حالا». وأحياناً يستخدم بيضون الكامل مجزوءاً، للإفادة أكثر من سلاسة جرسه الإيقاعي، كقوله في الفعل المضارع: «سجّلْ فلا أضناك هَمْ\ إن المضارع فعْل لم\ في النصب حطّ رحاله\ أما المقام فأرضُ جزم». إلا أن تمرس الشاعر بالايقاع لم يمنعه من الوقوع في بعض الهنات الوزنية غير المستحبة، والتي كان بغنى عنها. ففي الخبب الذي يقوم على تتابع حركات ثلاث تنتهي بالسكون، يعمد بيضون الى استبدال الحركات الثلاث بحركات خمس تتعاقب دون توقف، كما في قوله «في صِيَغِ مبالغةٍ حذِرُ»، أو «اسمٌ ونَكِرَةٌ منصوبُ». أحكام نحوية لا بد في ختام هذه المقالة من الإشارة إلى التفاوت الملحوظ بين أبواب الكتاب ومقطوعاته. ففي حين يتسم بعضها بوضوح القصد ويزخر بالشواهد الدالة والملائمة، يظل بعضها الآخر رهينة الالتباس والتعقيد الناجمين عن الاختزال الشديد، أو غياب الشواهد التي كان يجدر ببيضون إيلاءها الأولوية القصوى في محاولته لتسهيل تعلم اللغة، كما لإبعاد قواعدها عن التجريد الذهني ووضعها في سياق أكثر ملموسية. ففي بعض الأحيان يتم اختزال الأحكام النحوية الى حدود التعمية وتغييب التفاصيل والشواهد القمينة بتوضيح القصد، ويطغى هاجس الشغف بالإيقاع على أي اعتبار آخر، كقول المؤلف في باب الاستثناء: «أدوات استثناء تأتيهِ\ تسبق إسماً نستثنيهِ\ فيخالف في الحكم سياقاً\ ينفيه ومنصوباً يبقيه\ يربط بالمستثنى جنساً\ مستثنىً منه يوازيه\ وبدون المستثنى منه\ يصبح للحصر فنقصيهِ». أما الشاهد اليتيم الوارد في نهاية النص فلا يكفي بأي حال لإشباع نهم القارئ إلى فهم الأحكام الإعرابية والوظيفية لأدوات الاستثناء. وهو أمر ينسحب أيضاً على أدوات الجرّ التي يتم تعدادها من دون شواهد، وعلى أسماء الإشارة وغيرها. وفي أفعال المدح والذم لا يحدد المؤلف طبيعة الاسم الذي يلي «نُعْمَ» و «بئْس» ولا يذكر حكمه الإعرابي. كما أن تسكين الشواهد المعربة لوقوعها في نهاية البيت، كتسكين الفاعل في جملة «يحلّق في الجو الطائرْ» لا يخدم الدلالة النحوية بأي حال، وكان يجدر به القول «الطائرُ»، ولو اضطر إلى تغيير الوزن والسياق. وهي إشكالية تتكرر في غير موضع من الكتاب. وربما كان الحري بالمؤلف أن يأخذ وقتاً أطول في وضع كتابه والتأكد من إصابة أهدافه ومراميه، وأن يعتمد الشواهد والأمثلة أساساً لتقريب القواعد العربية الصعبة إلى الأذهان، حتى لو اتسعت رقعة الكتاب وتضاعفت صفحاته. على أن هذه الملاحظات لا تدفعنا إلى التقليل من أهمية الكتاب، أو المشقات التي بذلت لإنجازه، ولا تصرفنا عن إيجابياته الكثيرة التي أشرت إليها في مواضع سابقة. وإذا كان ناجي بيضون قد عمل ما في وسعه لردم الهوة بين لغة الضاد والناطقين بها، فإن الفنان أحمد قعبور يستطيع، فيما لو استكمل تلحين العمل وإنشاده، لا أن يقلص تلك الهوة إلى حدودها القصوى فحسب، بل أن يعطي لقواعد اللغة الصعبة طابع التشويق والشغف والمتعة الخالصة.