يكاد تاريخ لبنان الحديث ان يُختصر بالانقسام المسيحي - المسيحي، خصوصاً بعد مرحلة الاستقلال. وتطابقت قيادات الاطراف الطائفية الاخرى مع هذا الانقسام. اذ انه المعبر الأساسي الى السلطة كون العرف، ومن ثم اتفاق الطائف، خصّ الموارنة برئاسة الجمهورية. ودارت الحياة السياسية، مع تشعباتها الادارية والتنموية، حول هذا الانقسام الذي عكس في الوقت نفسه الجدل حول موقع لبنان والتزاماته العربية. وظل هذا الانقسام، حتى الحرب الأهلية منتصف سبعينات القرن الماضي، مضبوطاً عموماً بالدستور والقوانين. وانطلاقاً منه تجددت الحياة السياسية، عبر الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وإن كانت شابت بعض المراحل اعمال عنف، كان محركها العلني هو رئاسة الجمهورية، كما حصل في 1952 أو 1958. في المرة الاولى عندما رغب الرئيس بالتجديد، وفي الثانية عندما وقف الرئيس الى جانب احلاف خارجية تستهدف المنطقة. وكان هذا الانقسام، في عمقه، تعبيراً عن رفض الطوائف غير المسيحية عموماً لسياسة الرئيس. وتحول هذا الرفض، مع التغيرات الديموغرافية والاقتصادية، الى عنصر ضغط في اتجاه اعادة رسم المعادلة الداخلية بين الطوائف. وهذا ما عبّر عنه اتفاق الطائف. لكن منذ بدء العمل بهذا الاتفاق، طرأت متغيرات على التركيبة الداخلية، خصوصاً النهوض الشيعي المتمثل بتحالف «أمل» و «حزب الله»، والتحول لدى السُنّة، من عروبة فضفاضة نحو لبنانية تحاكي تلك التي دافع عنها المسيحيون عموما في السابق. واذا كان السُنّة تفادوا، لعوامل كثيرة، خلال فترات الاضطراب الكبير في لبنان، الاقتتال الداخلي، فإن الشيعة والمسيحيين تقاتلوا وتذابحوا. وفي حين تمكن الشيعة، والى حد كبير السُنّة، ان يتصالحوا في ما بينهم، ظل الانقسام المسيحي قائما، ولم تنفع كل محاولات التصالح الداخلي. وتبرز حالياً محاولات تصالح عابرة للطوائف، على الاقل من اجل تفادي انزلاق العنف الكلامي الى الشارع. لكن الانقسام المسيحي يزداد عمقا. وقبل ايام من الاقتراع الاشتراعي، سيحدد هذا الانقسام صورة البرلمان المقبل، وربما صورة لبنان. علما ان الدور والوزن المسيحيين، انحسرا كثيراً، في الحياة العامة والسياسية في لبنان، سواء بفعل اتفاق الطائف او عوامل الضعف الذاتي الداخلي. هذا التناقض بين واقع المسيحيين المتزايد الضعف وبين التعويل عليهم لتحديد صورة لبنان المستقبل، يعبر بالتأكيد عن ازمة هؤلاء. لكنه في الوقت ذاته يعبر عن ازمة الطوائف كلها في تلمّس الصيغة الجديدة التي ينبغي ان تحكم التعايش السلمي بين ابناء الوطن الواحد. وابرز مظاهر هذه الازمة تلك المعركة الانتخابية الضارية في المناطق حيث يغلب الصوت المسيحي، في الوقت الذي تعتبر النتائج محسومة في المناطق حيث الغلبة لطوائف اخرى. في هذا المعنى، تعبّر الأزمة بين المسيحيين عن تلك الازمة المستمرة في لبنان، والمرتبطة بصورة الوطن ومعنى مؤسساته وكيفية صوغ مواطنة مشتركة، تكفل حقوقاً وواجبات متساوية، كما ينص الدستور. وتظهر تجربة الولاية الاشتراعية السابقة، ان هذه الأزمة لم تقتصر فقط على تعطيل المجلس النيابي زهاء نصف ولايته وتعطيل العمل الحكومي، وانما ايضاً بذلك الاختلاط الكبير بين المؤسسات والهيئات. وبدا ان أي زعامة طائفية تسعى الى أن تلخص، في ذاتها، المؤسسات خصوصاً التنفيذية. فيما تحولت الحكومة الى نوع من برلمان مصغر يختصر في ذاته عمل المؤسسة الاشتراعية. ومن الملفت، في هذا المجال، ان جدول اعمال هيئة الحوار الوطني التي تشكلت في ظروف استثنائية للبحث في قضايا تتعلق باستراتيجيات الوطن، بات يقتصر على بنود هي من اختصاص السلطة التنفيذية.