«ماما، الثورة قامت ومصر كلها في ميدان التحرير، ممكن السائق يوصلني هناك؟»، كانت هذه هي العبارة التي باغتتني بها ابنتي الصغيرة ذات ال12 سنة، وهي تحادثني عبر هاتف الفندق، حيث كنت أقيم في مدينة الكويت. لم أكن أتخيل أن يفوتني قيام الثورة، بل لم أكن أتخيل أن تقوم ثورة أخرى غير آخر ثورة استذكرت تاريخ اندلاعها، وامتحنت في أسبابها، ونجحت في تسميع أهدافها. إذاً لقد أُضيفت ثورة جديدة الى قائمة الثورات المصرية، وكانت الصغيرة هي أول من أمدّني بخبر اندلاعها الفعلي. عدت الى القاهرة بعد شعلة الثورة الأولى بيومين، استقبلني ابني ذو السنوات ال15 بقوله: «ألم أقل لك؟ ثورة الفايسبوك نجحت!»، لقد راهنني ابني ال «فايسبوكي» ذو الانتماء ال «تويتري» قبل سفري بأيام على أن شباب «فايسبوك» سينجح في تنظيم الصفوف والخروج الى ميدان التحرير للمطالبة بالتغيير. ظللنا نتناقش في قدرة الموقع المذكور على تحريك الصفوف وحشد الشباب والدفع بهم الى الشارع. هو رأى إمكانات النجاح، في حين ركزت أنا على احتمالات الفشل. وكسب الرهان، عدت بأعجوبة الى القاهرة قبل ساعات من التكدس الرهيب في مطار القاهرة. لم تكن عودتي فرصة للإطلالة الأولى الحقيقية على ثورة الغضب غير المتوقعة، ولكنها كانت الإطلالة الأولى غير المتوقعة أيضاً على حجم الوعي السياسي والاجتماعي لدى جيل الأبناء. وبدلاً من الاتصالات العنكبوتية غير المسموعة والخليوية القابلة للإخفاء، وهما وسيلتا الاتصال الأكثر انتشاراً والأعلى شعبية في جيل الأبناء، تم نقل شبكة التواصل الاجتماعي إلى الهاتف الأرضي، وهو ما كان له أفضل الأثر في متابعة «غير مقصودة» لاتصالات الصغيرين بأصدقائهما. تمركزت غرفة الاتصال في المربع الواقع أمام شاشة التلفزيون الرئيسة في غرفة الجلوس. فمؤشر التلفزيون دائم التنقل بين «بي بي سي» العربية و «العربية» و «الجزيرة» (قبل قرار وقفها)، وقنوات التلفزيون المصري الرسمي. فوجئت بمقدار هائل من الوعي السياسي لدى الصغيرين، إضافة الى شغف عارم للاطلاع على مجريات الأمور من خلال الفضائيات التي باتت في زمن انقطاع هواء الإنترنت وعبق المحمول، النافذة الوحيدة المتبقية للاطلاع على الأحداث. «ليس من المعقول أن تتجاهل الحكومة رغبة الشعب»؛ «الشعب قال كلمته ولم يتبق سوى أن يحققوا لنا مطالبنا»؛ «نحن لا نريد سوى حقوقنا، نريد عدلاً وحرية»... كانت صدمة بالنسبة إلي أن أكتشف فجأة أن الصغيرين على هذا القدر من الوعي والاطلاع. يبدو أن الإنترنت نجحت في إبعاد جيل الآباء عن الأبناء فعلاً. نقاشات وحوارات سمعتها للمرة الأولى بينهم وبين أصدقائهم حول ما يحدث، وتوقعاتهم. هذا الاكتشاف الجديد أدى الى حوار سياسي أسري لم يكن ليحصل قبل أيام. حوار أسري غير معتاد حول «ثورة الغضب» لم يكن السمة التي تجمع البيوت المصرية في خضم الأحداث الجارية. إيمان، أم لولدين في السابعة وال12 تنتهج نهجاً مغايراً تماماً. تقول: «أحرم نفسي من متابعة الأحداث في التلفزيون كي لا يسمع الولدان بما يحدث. أخشى عليهما من الاهتمام في هذا الشأن الخطير. فمن يضمن لي أنهما لن يخرجا في تظاهرة هنا أو يشتبكا في حوار سياسي غير محمود العواقب هناك؟». إيمان الخائفة من الحوار السياسي مع صغيريها ترى أنها وعائلتها «ناس عاديون»، أي أن لا علاقة لهما بالسياسة. بالنسبة إليها، «السياسة لا تؤكل عيشاً، بل إنها تضر ولا تنفع». لكن يبدو أن الولدين لا يشاركان والدتهما هذا التخوف الشديد من السياسة، ولا يريان فيها ما يخيف أو يرهب، بل العكس هو الصحيح. يقول صغيرها: «لن أشارك في تظاهرة لأنني قصير، والكبار قد يدوسونني. لكن من حقي أن أقول رأيي». صحيح أن رأيه السياسي تأثر إلى حد كبير بما يسمعه من الجيران، لأنه لا يعي ما يحدث على أرض الواقع. وعلى العكس، فإن شقيقه الأكبر يعي الى حد كبير ما يحدث: «أريد التغيير ونفسي أن أشارك في التظاهرات، لكن ماما تخاف علي. لذلك أكتفي بالنزول الى الشارع ليلاً وأشارك في حماية شارعنا وأهله طيلة الليل». ويبدو أن ليل تضييق الخناق وكبت الحريات وخنق الرغبات، حتى داخل الأسرة المصرية، قد ولى وأدبر. حتى محاولات البعض حجب مشاهد العنف التي تتخلل التظاهرات عن الأطفال خوفاً عليهم لن تجدي. آجلاً أو عاجلاً، ومع عودة الإنترنت وأدواتها التي بثت عبير الحرية وعبق التعبير عن الرأي، سيرى الصغار ما حجبه الأهل عنهم سواء خوفاً عليهم أم اعتقاداً منهم بأن السياسة هي للناس «غير العاديين» فقط. الأكيد أن السياسة هي للناس «العاديين» ومن أجلهم، وعلى الصغار أن يتربوا عليها لأنهم سيمارسونها بعد سنوات، سواء كمتلقين ومؤثرين أم كصانعين ومبتكرين. وبدلاً من إضاعة الوقت والجهد والمال في ابتداع مناهج دراسية جديدة تتحدث عن الأخلاق، أو إهدار قدرات الصغار وملكاتهم الإبداعية في نصوص مدرسية عقيمة، اخترت أسلوب «اللف والدوران» للحديث عن السياسة الوطنية، خوفاً من فتح الباب أمام الصغار للإدلاء بآرائهم، يجب تعليم الصغار أبجديات السياسة وإطلاعهم على ما يحدث حولهم، لأنهم سيتعلمونها بطريقة أو بأخرى، وسيطلعون على أسرارها بعلم الأهل أو من دونه. هذا ما تعلمته من ثورة الغضب المصرية. والمرة المقبلة حين تبشرني ابنتي بأن الثورة قامت وأن ميدان التحرير يعج بالمتظاهرين، لن أنهرها ولن أقاطعها. وبالطبع لن أشجبها، لأن السياسة لعبة تبدأ من الصغر وتنضج مع الكبر، وإن حُجبت في الصغر، فستظل لعبة حتى في الكبر.