عهد جديد منزوع النصائح خالٍ من التوجيه ولا يحوي إلا التلميح. وهو عهد لم يُخطط له، أو تُدبر ملامحه. كما لم يجرؤ أحد على وضع تصور لما قد يحمله الغد من آثار، سواء مباشِرة أو عكسية له، وذلك لسبب بسيط. طرفا المعادلة اتفقا اتفاقاً ضمناً على تدشين العهد. فالأول لم يعد لديه من الوقت والجهد ما يسمح له بالنصيحة. والثاني قرر أنه ماض في طريق مغاير وأنه لم يعد يملك سوى أذن من طين وأخرى من عجين في حال تعرض لنصيحة هنا أو توجيه هناك. التوجيهات المنصوص عليها في اللائحة المعلقة على بوابة المدرسة تكاد تختفي حروفها أمام حروف وكلمات كتبها الطلاب والطالبات. «ممنوع منعاً باتاً ارتداء ملابس غير الزي المدرسي» تحولت إلى «ممنوع منعاً باتاً ارتداء الزي المدرسي». «ممنوع منعاً باتاً الشعر الطويل للطلاب والشعر غير الملموم للطالبات» أصبحت «الشعر الطويل للطلاب وغير الملموم للطالبات» وهلم جراً. جرى العرف أن يعترض المراهقون والمراهقات على اللوائح والقوانين. وجرى العرف كذلك أن تصر مجموعات شبابية على بذل جهدها للضرب عرض الحائط ب «المفروض» و «الممنوع». كما أن العرف ذاته جرى على أن يخضع خارقو القواعد لدرجات من اللوم والتوبيخ ثم العقاب. لكن العرف الجديد الذي يسود مؤسسات تعليمية عدة يشير إلى تنامي ظاهرة أو هواية كسر القواعد مع تضاؤل مسؤولي هذه المؤسسات في المواجهة أو تكاسلهم أو تراخيهم. «مواجهة الفوضى بين الطلاب في السنوات الأخيرة أصبحت عملية شبه مستحيلة. فقد أصبحت الغالبية تعتنق مفهوماً يعتبر احترام لوائح المدرسة شكلاً من أشكال قمع الحرية الشخصية. وللأسف إنهم يجدون بين المعلمين –لا سيما الأصغر سناً- من يشجعونهم على ذلك. كما أن نسبة كبيرة من الأهل لم تعد تهتم بالتقويم والتوجيه، ربما لانشغالها أو لضغوط الحياة الأخرى. والنتيجة هي أن الزي المدرسي مثلاً أصبح فعلاً من أفعال الماضي، ناهيك بتصرفات يعتبرها الطلاب، لا سيما في المرحلة الثانوية حقاً مكتسباً لهم ما حول الفصول إلى فوضى غير خلاقة». الشكوى التي يحكي تفاصيلها مدير شؤون الطلاب في مدرسة خاصة نادر الحمامصي ليست فردية، لكن يمكن اعتبارها ظاهرة في النسبة الأكبر من المدارس. لكن ما يعتبره البعض من الكبار ظاهرة سلبية تعكس –من وجهة نظرهم– تمرداً أو خروجاً على القواعد أو ثورة على المألوف، ليس إلا طريقة مختلفة في التفكير وأسلوباً مغايراً للحياة. «الحياة كما عاشها جدي أو أبي ليست بالضرورة هي الأمثل. فالزي المدرسي مثلاً لا يؤدي إلى التفوق الدراسي ولا يمكن اعتباره مؤشراً يقيس قدرة الطالب على التحصيل. ثم إن التعليم الذي نحصل عليه متخم بالسلبيات والجمود ولا يؤهلنا لا لسوق عمل أو لفرص مستقبلية مبشرة، فهل الالتزام بالقواعد واللوائح هو كل ما يزعج القائمين على أمر التعليم؟!». وجهة نظر طالبة الثانوية العامة مريم سمير (18 عاماً) تحمل تبريراً للفوضى السائدة في الكثير من المؤسسات التعليمية، وهو تبرير قد يرفضه البعض ويقبله أو يتفهمه البعض الآخر. لكن في كل الأحوال يحمل نظرة تستحق التحليل. تحليل ما ورد في كلمة الطالب علي شلتوت الذي ألقى كلمة الطلاب من خريجي الجامعة الأميركية في القاهرة للفصل الدراسي صيف 2017 أمر ضروري لكل من يود أن يواجه حقيقة إسدال الستار على النصح والإرشاد بشكليهما الكلاسيكي. هذا الإسدال ليس مقلقاً بالضرورة أو منذراً بالمزيد من الفوضى غير الخلاقة، بل العكس هو الصحيح. لفت شتلوت إلى أنه جرت العادة أن يكون خطاب التخرج متمحوراً حول ما قدمته الجامعة لخريجيها الجدد الذين يتوقع منهم أن يكونوا نبراس الحاضر وقادة المستقبل ومشاهيره ومليونيراته. وقال بملامح متجهمة: «المفروض أن أقول لكم (الطلاب) كيف أنكم النور في الظلام، وكيف إن الحياة تبدأ في النقطة التي ينتهي فيها حيز شعوركم بالراحة، وكيف أن الحياة ماراثون اذا لم تتحركوا فيه إلى الأمام بسرعة فستجدون أنفسكم في المؤخرة». لكن شلتوت خرج عن حدود المفروض. وقال بشجاعة وجرأة: «من يرددون هذه العبارات محبوسون في عالم رأسمالي قائم على التحدي دائماً وأبداً إلى درجة أنهم يخشون أن يشعروا بالراحة أو يخلدوا إلى إجازة». ضجت القاعة بتصفيق حاد من الطلاب والطالبات الذين شعر غالبيتهم بأن كلمات زميلهم توثق ثورتهم على عالم النصح والإرشاد التقليدي الكلاسيكي حيث البحث عن المتاعب عقيدة وعدم الاستكانة إلى الراحة أو السكينة فريضة. ومضى شلتوت في كلمته متهماً أولئك المعتنقين فكر الركض المستمر من أجل التميز ونبذ أي ميل إلى الراحة بأنهم لا يشعرون بالأمان في حياتهم للدرجة التي تجعلهم لا يرون في الحياة سوى المنافسة وضرورة عدم تفويت الفرص. وبين تصفيق انتقامي من الطلاب وتصفيق اضطراري من الأهل، استطرد شلتوت قائلاً: «ليس كل من يرتدي قبعة وثوب التخرج في هذه القاعة يطمح لأن يكون بليونيراً أو شخصاً مشهوراً. بعضنا يرحب بفكرة العيش في بيت صغير وتكوين أسرة صغيرة في مزرعة صغيرة، وهو ما يعتبره قمة السعادة. كثيرون منا محاصرون بعبارات وأجواء تدعونا إلى هجر حيز الراحة الخاص بنا، حتى اعتقد بعضنا أن المفروض أن تكون الحياة صعبة وقاسية». همهمات الأهل من آباء وأمهات وأجداد وجدات في القاعة بدأت تكشف عن مراجعات ذاتية آنية وصل بعضها إلى حد البكاء على زمن الراحة والسكينة المسكوب. وأبى الطالب شلتوت إلا أن يسكب المزيد من الوقود على نيران تأييد الطلاب الثورةَ القادمة على النصح المتحجر والإرشاد المتيبس، فاستعرض تجربته الشخصية في الجامعة. فهو تخصص في مجالين هما هندسة الميكانيكا والمحاسبة: «في هندسة الميكانيكا أخبرنا الأساتذة أن علينا أن نتعلم على مدى سنوات الدراسة الخمس الحس الهندسي، فإذ بي أكتشف أن الحس الهندسي هو الحس البديهي. وفي المحاسبة، علمني الأساتذة كل ما له علاقة بالمحاسبة. وفي الفصل الأخير قبل التخرج، أخذت مادة اسمها «المحاسبة المميكنة». وتخبرنا هذه المادة بالمفاجأة الكبرى، وهي أن كل ما تعملناه عن المحاسبة طيلة سنوات الدراسة يمكن عمله أوتوماتيكياً. ومن ثم، فإن ما أكسبتنا إياه سنوات الدراسة في الجامعة ليس كوننا الضوء في الظلام، أو ضرورة انتزاعنا من حيز راحتنا، لكن أننا نمر بالنور والظلام، ونعيش أحياناً في حيز الراحة الخاص بنا وأحياناً نضطر إلى الخروج منه». شلتوت هز القوالب الثابتة، ورج الأنماط المتوارثة تاريخياً عن فضائل النصح عبر دفع المنصوح بوضع نفسه تحت ضغوط عاتية ومواجهة منافسات قاسية ومقاومة الإرشاد بالخطابة والكتابة عن قيمة الموت بالسكتة القلبية أثناء العمل وميزة إهدار سنوات العمر في عمل لا ينقطع ومنافسات لا تهدأ. صحيح أن الفوضى غير الخلاقة السائدة في المؤسسات التعليمية يختلط فيها حابل الاستهتار بنابل إعلان الموقف والتعبير عن التغيير والتحديث، لكن تغيير أنماط النصيحة وتحديث أشكال الإرشاد باتا حتميين لمن أراد ضمان الفائدة. إنها ثورة ناعمة على أنماط النصح والإرشاد.