من شقة فاخرة في منتجع مغلق على مقربة من القرية الذكية في مدينة السادس من أكتوبر إلى شقة متهالكة في مساكن الزلزال على مقربة من مدينة القاهرة الجديدة. وبين هذه وتلك غرف مستأجرة لمغتربين في بيوت ما أنزل الله بها من سلطان، وأخرى متشاركة في عمارات ولا في الأحلام. فرص عمل لخريجي الجامعات الأفضل تنقل أصحابها من أقصى شرق العاصمة إلى أبعد جنوبها، واحتمالات أكل عيش تغري الباحثين والمتعطشين للنزوح من وجه قبلي إلى بحري حيث الإيجار بعدد ساعات النوم على بقايا سرير، ودواعي تعليم تقدم فرص إقامة في مدن الطلاب السكنية حيث عدد نجوم الغرف تتراوح بين الخمسة ونصف النجمة أو ربعها. ربع راتب عمر الدكروري (23 سنة) المتخرج حديثاً في إحدى الجامعات الخاصة كان يُهدر في فاتورة الوقود، ومصروفات الصيانة والإصلاحات التي تستنزف سيارته. عمر الذي يسكن مع ذويه في شقة فاخرة في حي مصر الجديدة (شرق القاهرة) لم يكن يخطط أبداً لترك بيت الأسرة واستئجار شقة، لكنه اضطر لذلك لأسباب تتعلق بهدر الراتب والوقت والمجهود. يقول: «حصلت على فرصة عمل جيدة عقب تخرجي في مدينة السادس من أكتوبر التي تبعد 55 كيلومتراً عن بيتي. في البداية كنت أقود سيارتي ذهاباً وإياباً. لكني اكتشفت أن ذلك يحتم علي أن أستيقظ ساعتين ونصف الساعة قبل موعد بدء العمل، ثم أن طريق العودة في وقت الذروة قد يستغرق ثلاث ساعات كاملة للوصول. كما أن معدل استهلاك الوقود والسيارة نفسها جعلاني أستأجر شقة صغيرة في منتجع هادئ قريب من العمل، وأعود إلى البيت في عطلة نهاية الأسبوع». عطلة نهاية الأسبوع تشهد كذلك عودة يوسف فتحي (21 سنة) إلى بيت أسرته، لكن عودته عكسية. فهو يعمل حارس أمن في عمارة سكنية في مصر الجديدة ويسكن مع أسرته في «عزبة خير الله» (المدرجة ضمن العشوائيات الخطرة) القريبة من حي مصر القديمة. لكن شتان بين العودتين. فعودة عمر تعني تسليم مفتاح شقته المستأجرة لقسم النظافة في المنتجع حيث تخضع لعملية تنظيف شاملة، في حين تعني عودة يوسف توفير نحو 30 جنيهاً إيجار السرير الذي ينام عليه في غرفة مشتركة مع خمسة عمال غيره قريبة من موقع عمله. موقع العمل والدراسة ومدى قربه أو بعده من محل سكن الشباب من طلاب جامعيين أو موظفين جدد في المدينة نفسها بات مدعاة للاستقلال عن الأهل. فالقاهرة التي توسعت وتمددت وتوحشت صارت مدناً داخل مدينة. مي عمران (20 سنة) التحقت بجامعة خاصة في القاهرة الجديدة وتسكن في منطقة الشيخ زايد، أي ما لا يقل عن أربع ساعات تقضيها يومياً على الطرقات. وكان الحل هو الاستقلال الموقت عن بيت الأهل، فالتحقت ببيت الطالبات المغتربات التابع للجامعة قبل ثلاثة أعوام. تقول: «في العام الأول كنت المغتربة الوحيدة من القاهرة الكبرى في القاهرة، لكن على مدى العامين التاليين، زادت أعداد الطالبات اللاتي يسكن القاهرة ولكن في مناطق بعيدة عن الجامعة. ازدحام الطرق وخطورتها وعدم وجود وسائل مواصلات آمنة، لا سيما للفتيات، تدفع أعداداً متزايدة من الأهل على الموافقة على إقامة بناتهن بعيداً منهم». سكن الجامعة هو أفضل الحلول للمضطرين– أو بالأحرى المضطرات- للاغتراب بعيداً من بيت الأهل. العادات والتقاليد من جهة، والظروف المادية الضاغطة من جهة أخرى ما زالت تقف حائلاً أمام استقلال الشباب والشابات من الطلاب والطالبات بعيداً من منزل الأسرة. صحيح أن البعض يبذل محاولات للاستقلال عن الأهل بعد انتهاء الدراسة الجامعية، لكن تبقى الفكرة غريبة وغير شائعة. «اعتاد زملائي وزميلاتي من المعلمين في المدرسة التي أعمل فيها سؤالي عن مكان إقامتي. وكلما كنت أخبر أحدهم إنني أقيم في مدينة الشروق المتاخمة للقاهرة أثناء العام الدراسي ثم أعود إلى بيت أهلي في حي الدقي في عطلة الصيف كانت نظرات استغراب تتسلل إلى وجوههم. وقد اعتدت أسئلة على شاكلة: وهل وافق أهلك على إقامتك وحدك؟ لماذا لا تستخدمين باص المدرسة الذي يذهب إلى الدقي بدلاً من إقامتك وحدك؟ وعلى رغم إنهم مقاربون لي في العمر، إلا أنهم لا يتقبلون فكرة استقلال فتاة بعيداً عن أهلها». والحقيقة أن الاستقلال لغير المتزوجين بعيداً من الأهل في حال كان مقر العمل ضمن المدينة نفسها فكرة تقابل إما بالرفض أو الاستهجان أو الاستغراب أو جميعها. خالد مصطفى (30 سنة) مر بتجربة فريدة. فعقب تخرجه أخبر والديه أنه سينتقل للعيش في الغرفة الخالية أعلى العمارة والتي كانت مخصصة للضيوف. رفض الأب في البداية لأنه لا يوجد ما يستدعي أن يعيش بعيداً منهما. أما الأم فقد شعرت بحزن شديد وفسرت رغبة ابنها الوحيد بأنه لم يعد يحب والديه. يقول خالد: «واجهت مشكلة كبيرة لأقنعهما بأن شعوري بالحب والعرفان لهما لم يقل بل زاد، ولكنني في حاجة إلى الاستقلال لبعض الوقت. وفي النهاية وأمام إصراري أذعنا. ومرت السنوات وما زلت أقيم في غرفتي في أعلى العمارة، وما زال والداي يطالباني بالعودة إلى البيت أو الزواج. ثقافة الاستقلال نفسها غير واردة في مصر، لا للشابات ولا للشباب». وعلى رغم ذلك، تظل جهود وقروض وبنود الإنفاق موجهة لدفع مقدم وأقساط شقة سكنية للشباب من الجنسين. ويكاد لا يخلو بيت مصري من بند إنفاق شهري لسداد قسط شقة الابن أو الابنة. كما أن جانباً من رواتب الشباب والشابات باختلاف طبقاتهم الاجتماعية والاقتصادية يتم تخصيصه لهذا الغرض. فبين فرصة استثمار وشعور بالأمان وإعداد العدة للزواج تدور دوائر البحث عن شقة تمليك. هذه الشقة قد تكون «دوبلكس» في منتجع راق لا يقل سعرها عن مليوني جنيه، وقد تكون «علبة كبريت» في مشروع إسكان اجتماعي مخصص لمحدودي الدخل والشباب في سن الزواج تتحمل الدولة جانباً من كلفتها كنوع من الدعم. وبين الاثنتين فئات ودرجات من الشقق التي تعد بنداً منصوصاً عليه في مانيفستو الزواج للشباب ونقطة جذب لا يستهان بها للشابات، وفي كل الحالات استثمار مضمون حيث أسعار الشقق السكنية لا تقل أبداً، حتى لو ظلت «شقة ابني في التجمع» مغلقة عشر سنوات، و «شقة ابنتي في الطابق العلوي» ولا يسمح لها بالمبيت فيها إلا بعد الزواج.