لا تقدّم الاحتجاجات الصاخبة الممهورة بدماء الأبرياء والتي تجتاح تونس من أقصاها إلى أقصاها برهاناً على أزمة الشرعية التي يعيشها معظم الأنظمة العربية فحسب، بل تؤكّد مجدّداً أمرين أساسيين؛ أولاً، عجز المعارضة التقليدية عن إحداث أيّ تغييرٍ وتخلّفها عن حركة الشارع، وثانياً، قدرة الناس العاديين شباباً وشغيلة وعاطلين من العمل ومهمشين على إحداث التغيير من دون حاجةٍ إلى الخارج، وتحقيق النقلة الضرورية من الحراك المطلبي إلى الحراك السياسي وهو قابلة التغيير الحقيقية. القهر والإفقار وانعدام الأفق، ثلاثيّةٌ تتسلّط على ملايين البشر الذين ظنّ البعض أنّ الطغيان والاستبداد حوّلاهم إلى أغنامٍ تقاد إلى مسالخها صاغرةً من دون أيّ احتجاج. لكنّ شرارةً قدحها الدم والغضب، واستحالت حريقاً يصعب إطفاؤه، أعادت الاعتبار مرّةً أخرى لقدرة الجوع على هزيمة شبح الخوف ومواجهة القمع بحشد الغضب وإطلاق عنانه لإحداث التغيير المطلوب من خلال استعادة الحقوق الأساسية المغتصبة: حقّ الحياة، وحقّ التعبير والاجتماع، وحق العمل، وحقّ المشاركة في صنع القرار السياسي. لم تستطع النخبة التونسية الحاكمة هذه المرّة تسليط سيف الخيانة العظمى على معارضيها، بإلقاء تهم الإرهاب أو العمالة للخارج جزافاً لوأد الاحتجاجات المطلبية التي استحالت ثورة غضبٍ عمّت شوارع مختلف المدن والبلدات التونسية. بل إنّها وللمرّة الأولى، وأمام مجابهةٍ كانت خارج حساباتها منذ عقودٍ من الزمن، اضطرّت للتقهقر وحاولت على رغم أنفها إطلاق وعود الإصلاح والتضحية برموزٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ لامتصاص الغضب من دون جدوى. بدا وكأنّ زمن إرهاب الناس بالقتل والاعتقال والتجويع قد ولّى إلى غير رجعة، وبدت عادة تخدير عقولهم بالأكاذيب خارج السياق تماماً. استيقظت السلطة على كابوسٍ ظنّت أنّها اجتثّته مرةً واحدةً وإلى الأبد. من جانبها، تثبت المعارضة التقليدية بشتّى أطيافها وتلاوينها عجزها، مثلها مثل السلطة، عن إدراك ما حدث على رغم محاولاتها اللحاق لاهثةً بموجة المدّ الطاغي لتسلّقها وقطف أيّة ثمارٍ قد تنتج منها. فرهان قطاعٍ واسعٍ منها على انعدام آفاق التغيير إلاّ بمساعدة الخارج، سواء كانت مباشرةً أم غير مباشرة، جعلها تقتات أوهامها ودفعها خارج حياة الناس وخارج التاريخ. لم يكن خافياً أنّ المنطقة العربية تسيّجت منذ عقودٍ ثلاثةٍ أو سيّجت بما يصدّ رياح التغيير، إقحال الحياة السياسية والغرق في مستنقعات النزاعات الطائفية والإثنية والإقليمية والخضوع عموماً ومن دون شروطٍ لإملاءات القوى الخارجية والارتهان لها حرصاً على ترسيخ النظم القائمة بشتّى الوسائل والطرق وتأبيداً لها. ولم تفعل الثورة الإسلامية في إيران أواخر العقد الثامن من القرن الماضي إلاّ إطلاق قوى التطرّف الديني/السياسي الأعمى الذي قدّم مساهمته الفاعلة في تعميم هذا اليباب. لكنّ ما غاب عن الأذهان تحت وطأة الإحباط واليأس من الحاضر والمستقبل أنّ رياح التغيير لا تنتظر دوماً تذبذب بوصلات الخارج، بل قد تخلق هبوباتها من داخل ذلك اليباب وعلى رغم إقصاء حواملها الاجتماعية عن حقول السياسة والاقتصاد والثقافة الخاضعة للاحتكار. تقدّم تونس الوادعة اليوم ومواطنوها الشجعان أمثولةً جديدةً لخياراتٍ أخرى تسمح بشقّ دروبٍ جديدةٍ في الحياة السياسية العربية المعاصرة... لا تقوم اليوم مجموعةٌ من المغامرين العسكريين بإصدار البلاغ الرقم واحد باسم الجماهير ومصالحها، ولا تعصف ثورةٌ ملوّنةٌ تنتقي لها عواصم الشمال ألوانها وأهدافها، ولن يجدي أن تُكره نخبةٌ حاكمةٌ على مقايضة واشنطن (وحلفائها) بالتخلّي عن عدائها الظاهر لها أو على فصل جزءٍ من البلاد لقاء بقائها في السلطة، أو أن تغزو أراضيها قوّات الغرب بذريعة الدفاع عن حقوق المواطنين وتخليصهم من الطغاة. طلبة تونس وخريجو جامعاتها وعمّالها الذين دفعتهم البطالة والإملاق والتهميش إلى هدم جدار الخوف والإعلان عن مطالبهم في وضح النهار، ولم يستطع رصاص القتل أن يثنيهم بل حشد إلى جانبهم أهالي الضحايا الأبرياء، يجترحون اليوم معجزةً طال انتظارها أساسها إحلال ثقافة انتزاع الحقوق محلّ ثقافة تسوّلها. إن استطاعت الحشود، التي عجزت أدوات القمع والمناورات السياسية الخادعة عن إخماد حرائق غضبها ووقف انتشاره، رصّ صفوفها وتنظيم قواها سياسياً ومطلبياً، فقد نستفيق غداً على آثارها المباشرة: هروب المتسلطين إلى العواصم التي أودعوا في مصارفها حصيلة نهبهم، ولن يطول الأمر حتى نجد أنفسنا أمام معتركٍ حقيقيٍّ للديموقراطية قد يجعل العقد الثاني من الألفية الثالثة عقداً لطلائع التغيير عوضاً عن عقدها الأول الضائع. * كاتب سوري