في الانتخابات التي حصلت في المحافظات العراقية في بداية عام 2009 كانت التوقعات على العموم تشير إلى الانحسار العام للقوة الصدرية في «المجتمع الشيعي» عموماً وفي «مدينة الصدر» في بغداد والمحافظات الجنوبية خصوصاً. كانت الأسباب لهذه التفسيرات موجبة في أجواء الهزيمة «العسكرية» الصدرية أمام ضربات التحالف اليومي بين الوزير الأول والقائد الميداني الاميركي ديفيد بيترايوس وخطته في استكمال «الاندفاعة» وتصفية «الميليشيات الطائفية» من كل الأطر اليومية ل «المكونات» المنخرطة في «العملية السياسية». إن ذروة التدجين السياسي قد حدث في عمليات البصرة العسكرية عام 2008 واستمرار ذلك في بغداد وضواحيها من تجمعات التيار الصدري وقوته في المناطق الفقيرة والأحياء الشعبية «المغلقة» والمسورة بالجدران الكونكريتية العازلة بعد ظفر القوات الحكومية – الاحتلالية في «الحرب الأهلية» الصغيرة في العاصمة وفي ظل الصمت المطبق للنفوذ السياسي لدول الجوار عموماً وايران بخاصة. لكن المفاجأة التي لم تدر بخلد المتابعين للتطورات في «البيت الشيعي» كانت قد نضجت في انتخابات المجلس النيابي في آذار (مارس) الماضي. من هنا فقد الكثير من المحللين في أخطاء شائعة حول تبدلات «القوة» في تيار اجتماعي ما وقدراته على تغيير جلده «السياسي» في المنعطفات الحادة. ومن البديهي في الخريطة العراقية الاجتماعية المفككة منذ أكثر من نصف قرن أن تطفو دائماً على سطح الأحداث شبه «المصيرية» قوى يكون أحياناً دورها الحاسم في بنيتها الداخلية الخاصة أو على صعيد حراكها الاجتماعي أو من خلال استيلائها على مساحة مهمة في الحيز السياسي المقرر. ويتحدث الخبير القدير تشارلز تيللي عن أن من خصائل تلك القوى انها تعبر عن المناخ الديموغرافي سياسياً أكثر من كونها شريحة تعكس المصالح التاريخية للفئة التي تنتمي اليها. ومن خلال الامكانات العريضة التي تنالها في الفوات الاجتماعي العام نجد في طياتها تناقضاً أفقياً وعمودياً مع الأطر التنظيمية التي تتلبسها في محطات مختلفة ومتناقضة من حياتها السياسية والتنظيمية. إن «الحشود الجماهيرية» والرثاثة الاجتماعية والانحطاط الاقتصادي علامات فارقة في الجسد الضخم الديناصوري لتلك القوى وفي ضيق أفقها الفكري والقدرات المحدودة «لعقلها» الصغير السياسي الاستراتيجي. بيد أن ارفاند ابراهاميان ومن خلال تجربته العميقة في دراسة «الحشود» الايرانية يرى أن اللقاء المفصلي بين تلك الحشود والأطر التاريخية القائمة والوليدة والمهمة يحفر بقوة في حركة المصالح اليومية الجارية وطموحات الخط العام لهذا التلاقي. من هنا يمكن توضيح الصلة بين الصفة «المونوبروليتارية» للحشود العريضة والتوجه «الشعبوي» للحركات السياسية، كالحزب الشيوعي وبعده حزب البعث ولاحقاً حزب الدعوة، ذات الطابع التاريخي الشمولي والحاد. وعبر الدراسة الملموسة للتمدد البياني العام يمكن الاقرار بأن أحد الطرفين يأتي من «فوق» من خلال «المرجعية» أو «السلطة السياسية» أو القوة «الحزبية» المنظمة المرحلية بينما تأتي تلك القوى من «تحت» وهي تحمل في جوفها كل الأعشاب السامة والطحالب الاجتماعية الرثة والمتخلفة. فأحد الأطراف يبحث عن المأوى الاجتماعي والثاني يعوض عجزه التنظيمي بالتنقيب عن الاطار السياسي - الفكري اليومي الموجه. وفي الانفلات الاجتماعي العام والاستقطاب «الطائفي» الجديد الذي تبلور في التسعينات من القرن السابق كان للراديكالية السياسية الشعبوية دورها المتميز عن جهود السلطة الديكتاتورية «الايمانية» من جهة وعن الحراك العام «الطوائفي» المعادي لاستبداها السياسي «الطائفي» المرتبط بمحتوى الدولة العراقية التاريخي. كانت هذه المعالم هي التي حددت الفوارق بين «الحركة الصدرية» الثانية وبين السلطة من جانب وبين الاتجاه العام للمعارضة «الشيعية» التي تقودها ايران وينضوي تحت سقفها «المجلس الأعلى» وحزب الدعوة كل من منطلقه السياسي والتنظيمي وضمن تطوره الاجتماعي الخاص. وإذا كانت السمات الراديكالية العلنية المزيفة هي السائدة في الوجه التنظيمي للقوى الشعبوية فإن عدم استقلاليتها في المنهج الفكري له دوره المعرقل في تطورها الطبيعي نحو «الحزب» الخاص لتشكيلتها الاجتماعية التي تنتمي اليها. ان تطورها البنيوي من «مدماك» لقوة سياسية سائدة إلى «بناء» مستقل عن السياق العام يحتاج إلى جهود جبارة وإلى تطورات ميدانية عضوية والا فإن مصيرها الحتمي هو أن تظل الاحتياط «التكتيكي» للقوى المؤثرة دورياً في عمليتي الاستيلاء على «السلطة السياسية» أو مصادرة «الثروات» العامة والخاصة للبلاد. من هنا يمكن القول إن الرجوع الحالي للشعبوية الصدرية ليس الا محطة موقتة لاستعادة الانفاس في ظل الحراك المعقد لنتائج الانتخابات البرلمانية والمسيرة المركبة لتشكيل الحكومة وتوافق «الكومندومينيوم» العالمي - الاقليمي على تجديد ولاية الوزير الأول. والوزير الأول يظهر للملأ وكأنه أبرم عقداً من «الفروغية» مع هذا التيار بتفضيله، على الآخرين في البيت الشيعي، في التشكيلة الوزارية مقابل تأييده المباشر في تجديد ولايته والاعلان جهاراً من قبل القائد الفعلي للتيار بأن قراره كان حصيلة الضغوطات الايرانية المستمرة. إن عدم مرونة العنصر العالمي المحتل في التفاهم مع هذا التيار واضطرار النفوذ الايراني الى استخدامه سياسياً في المراحل الحرجة من مناورات تشكيل الحكومة هو الذي أدى، وهذا خطأ كبير في القراءة، إلى اعتبار الصدرية هي «الملك» في صناعة الحكومة الجديدة. والمتابعة الدقيقة لتذبذب القوة «الكمية» للتيار، مع الاحتفاظ بحالته النوعية المغلقة، تجزم بوضوح أن انحساره تحقق بفعل الضربات العسكرية المشتركة للاحتلال والحكومة وتمدده من الجانب الثاني كان نتيجة التآكل اليومي للمكونات الأخرى، وفي المقدمة المجلس الأعلى والفضيلة والجلبي والجعفري، والصعود الملتبس مرة ثانية كان «سليقيا» تحت ضغوطات قانون الاواني المستطرقة الاجتماعي والسياسي. إن المحاولات الساذجة الجديدة لرجوع السيطرة «الخارجية» للتيار الصدري لا تلبي أبداً مسألة الجهات التي تطمح إلى إزالة الظواهر «الطوائفية» السياسية من السياق العام للصراع السياسي الراهن. إن تلبية مطالب الصدرية الشعبوية في منحها مراكز جديدة في بعض المحافظات، كبابل وميسان، واسناد عدة وزارات لها في الحكومة الجديدة هو اعادة انتاج نفس «المشاكل» السياسية السابقة وادارة الناعورة حول نفس المجاري العامة للتنافس اليومي للكتل المكونة ل «الطوائفية السياسية» القابضة على زمام «العملية السياسية» المنخورة والفاشلة في البلاد. * سياسي وكاتب عراقي