كان بابلو نيرودا، شاعر تشيلي الأعظم (1904 – 1973) في مطلع حياته الشعرية، يحسب حساباً لولت ويتمان الأميركي صاحب «أوراق العشب». يذكر خورخي بورخس هذه المسألة في حوارات أدارها معه ريتشارد بيرغن ونشرها عام 1988. يقول: «كنا متأثرين بولت ويتمان، التقينا قبل أربعين عاماً، قلت له مازحاً: ماذا نصنع باللغة الإسبانية؟ قال: فات الأوان على أن نكتب بالإنكليزية. لكننا سنكتب الأفضل بالإسبانية. وهذا الموقف المبكر لصاحب «الإقامة على الأرض» و»النشيد الشامل» كان يرمي الى توليد إبداعي خاص باللغة الإسبانية، بما تحمله من شحنات عاطفية لعلّها من رواسب عصور الأندلس، من ناحية، والى التعبير عن خصوصية محلية لأميركا اللاتينية، طالعة من جبال مشهدية وغابات وصخور عملاقة، ومن تاريخ صراعي تدفق منه دم حارّ للفقراء والقبائل القديمة، ما شكّل أهم سمة من أشعار نيرودا، ذاك النشيد المرتفع للحب وتدليل الصخور الضخمة والجبال الى درجة تكاد تومئ لعبادتها وانحياز يكاد يكون أيديولوجياً للأيدي العاملة والطبقة الكادحة. ولا ننسَ أنه كان شيوعياً في انتمائه ونضاله. إن قصائده في «حجارة تشيلي» و»لمتيلدا والحب والفؤوس» وفي «سيف اللهب» عن «رودو» و»روزي» وحبهما في قلب الطبيعة كما في مجموعة «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة»، هي النصب الأشد رقة وخشونة لشاعر استمد كليته من خصوصيات لغته وبلاده. ترجمات أخرى تمّ نقل نيرودا الى اللغة العربية باكراً. تعرّفنا عليه وعلى غارسيا لوركا وأنطونيو ماتشادو من خلال جهود متنوعة وترجمات بعضها عن اللغة الأم مباشرة (الإسبانية) وبعضها عن ترجمات الى لغات أوروبية ثانية على الغالب. لعلّ من أفضل الترجمات تلك التي قام بها محمد عيتاني عن الفرنسية في مجموعة «لماتيلدا والحب والفؤوس»، والترجمة التي قام بها ميشال سليمان عن الإنكليزية لديوان «سيف اللهب». قام محمود صبح بنقل أعمال نيرودا مباشرة من الإسبانية الى العربية، وثمة عملان ترجمتهما سحر أحمد (البصرة، العراق) على التوالي يكتسيان أهمية خاصة: كتاب «التساؤلات» Libro de las perguntas. إنه آخر ما كتبه نيرودا من أشعار، أنجزه قبل بضعة شهور من موته في عام 1973 ونشر بعد موته في بوينس آريس مطلع عام 1974. وهو يبدو في هذا الكتاب كأنه يتابع الكتابة بعد الموت. وليس الكتاب سوى 314 سؤالاً مقتضباً في كل شؤون بابلو نيرودا وشجونه، حتى أنه يسخر من اسمه فيقول: «هل من المعقول أن يدعى الواحد بابلو نيرودا؟». كتاب فيه من الطرافة والحكمة والسخرية ما لا ينتظر إلاّ من رجل كنيرودا جمع في آخر حياته طفولته التي غالباً ما كان يسأل أين هي ولماذا لا تموت، وشيخوخته كشاعر مجرّب خرافي وعملاق. يقول: «إن كان لا شيء سينقذنا من الموت فليتقدم الحب لينقذنا على الأقل من الحياة»، «أمس سألت عيوني متى يمكن أن يرى أحدنا الآخر»، «آه أين زرعوا عيون الرفيق إيليوار». بمثل هذه العذوبة والاقتصاد في اللغة والسخرية التأملية، ترجمت سحر أحمد كتاب «التساؤلات» (منشورات أزمنة/ عمان)، وقدّمت أيضاً العمل الثاني لنيرودا بترجمتها «مرتفعات ماتشو بيتشو» (دار أزمنة - عمان 2017). الكتاب قصيدة ملحمية إنشادية بإثني عشر نشيداً تكشف عن قدرة الشعر على إحياء ما ضاع من حضارات قديمة، إما بفعل العوامل الطبيعية من زلازل وهزّات، أو بفعل الحروب حيث يدمّر الإنسان هداياه القديمة لذاته. يأتي الشعر ليبعث بالكلمات الممالك المحطمة ويسكب نقطة حبر كبيرة في داخل أطلال الحضارة، أو يسكب الدموع على الجلد اليابس للتاريخ. وبالترجمة التي بين يدينا لا نشعر بغربة الترجمة، فالتدفق العالي للمقاطع واللغة الحادة للترجمة يقربان بين الأصل وصورته. نقرأ في مطلع النشيد الأول: «ريح لريح/ هواء في شباك/ همت في الدروب والجو/ أصل وأودع/ حمل الخريف نقوده المتناثرة/ من أوراق الشجر/ وبين الربيع وسنابل القمح اليانع/ تنتظرنا عطايا الحب العظيم/ قمراً ثقيلاً في قفاز ساقط»... من المهمّ القول هنا بضرورة ترجمة الشعر، والانتباه الى أن عولمة القصيدة والتداخل الثقافي الكاسح أديا الى كسر التحفظ المعروف في هذه المسألة، وهو أن الشعر جوهر لغة ووزن لا يترجم. لكنّ الجاحظ كان له تحفظ مهم على هذه المسألة التي كان أول من أطلقها حين أضاف أنه لا يترجم الشعر إلا بما يوازيه من الشعر، أي أنه فرض في الترجمة شروط الإبداع الموازي للأصل. لكنه في الأزمنة الحديثة تم الوصول الى معادلات جديدة تقول بضرورة خيانة الأصل لمصلحة الترجمة ذاتها، وبالتالي الوصول الى نصوص على نصوص. يستطيع المترجم أن يقول هذا لي كما يقول صاحب النص الأصلي، الذي قد يرقد هانئاً في أصله. ويأتي شعراء آخرون من جميع اللغات يكملون ما كان بدأه من كتابة. بالطبع نحن هنا مبتعدون عن فكرة الأمانة في الترجمة بل مبتعدون عن الترجمة وواصلون الى مكان آخر لم يكن متوقعاً، وهو أن الشعر يثير الشعر كما قال الشاعر العربي القديم: «... إن الشجا يبعث الشجا». أرض الزفاف بالعودة الى قصيدة «مرتفعات ماتشو بيتشو»، نرى نيرودا يدفع بلا مقدمات بكامل جسده الحيّ في فم الأنهار الوحشية في تلك المرتفعات من جبال الأنديز، كأنّه سابح كوني أو غواص في الألوان الزاهية لعناصر التكوين. إنه يسميها «أرض الزفاف» في إشارة منه الى تلك الرحم الجيولوجية العالية التي تتكون فيها الحياة من «لون الكبريت الخشن» كما يقول. ولأنّ ثمة «سيفاً مرصعاً بالشهب» ممدداً في «كنز الأرض الثمين» يخاطب نيرودا في نشيده الشامل مرتفعات الجبال ( 2340 متراً عن سطح الأرض) وبقايا مدينة أسطورية كان بناها هناك من 800 عام مرت شعب الأنكا الذي كان دمره الإسبان. ثمة دم على أطراف الصخور، هذه المدينة المبنية على شفا هاويتين اعتبرها الأثريون مدينة غامضة. هم يظنون أن الهدف الأساسي منها كان تقديم القرابين للآلهة حيث وجدوا جثث عدد كبير من النساء. شعب الأنكا كان يعبد الشمس وظنهم أن النساء بنات الشمس المقدسة. لا يذكر نيرودا القرابين لكنه يذكر الضحايا، وهو يلامس ذاكرة ماتشو بيتشو من ناحيتين: ناحية عبقرية الصخور وبقايا آثار أظافر الإنسان في الصخور. هو يمجد أبهة الطبيعة من خلال أناشيد كونية للجبال ويوائم بين أقدام البشر وأقدام الصخور لينتبه فجأة للإنسان، الذي يذكره مقترناً بالموت. «طحن الرجال كحبات الذرة... لا موت واحد بل موت صغير كل يوم» (النشيد 3)، ثم يسأل: «من هو الإنسان؟/ في أية حركة من حركاته المعدنية عاشت الحياة السرمدية الخالدة؟» (نهاية النشيد 2). يلوح لي أنّ نيرودا يلامس أسئلة ميتافيزيقية في جيولوجيا التكوين. وأقصد إشارته الى عصور غامضة لم يترك منها الإنسان أثراً، ليذكر بنضاله ضدّ الموت «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً» (سورة الإنسان 76) ولعلّ إنشاد نيرودا هنا أقرب الى الأناشيد الدينية القديمة حيث القرابين حاضرة باستمرار. تظهر إضافة نيرودا في توجهه في خلاصات أناشيده للإنسان: «حجر على حجر/ والإنسان أين هو الإنسان/ هواء على هواء/ والإنسان أين هو الإنسان/ زمن على زمن/ والإنسان أين هو الإنسان» (مطلع النشيد الخامس). ويقصد الإنسان المسحوق في أميركا العتيقة الذي يناديه في آخر نشيد «انظر إلي من أعماق الأرض/ دلّني على الصخرة حيث سقطت/ والشجرة التي صلبت عليها/ والسياط التي تركت أثرها على جلدك عبر العصور/ والفؤوس اللامعة بدمك». وبالطبع هو يذكر أقنومته الشعرية الخالدة. الحب حيث يلمع في داخل شعره دائماً ذاك الشريط من ذهب الحب: «... انهض معي أيها الحب/ قبل معي الصخر السري/ حبي يا حبي/ حتى تعرف الليلة المفاجئة من صوان الأنديز الرنان/ الى الفجر على ركبتيه الحمراوين/... الابن الأعمى للثلج» (النشيد 13).