قبل 100 سنة، كان من بين الجالسين في مقهى «نعيم» (سابقاً) المجدد الموسيقى سيد درويش، وهناك بدأت الأنظار تلتفت إلى ذلك الفتى الذي لم يبلغ العشرين، ويجلس يومياً يصدح بألحان على المارة ليس كمثلها لحن آنذاك. وعلى رغم أن طريق درويش إلى الشهرة بدأ من القاهرة منذ انتقل إليها عام 1917، فإن أصحاب المقهى بدلوا اسمه ليصبح مقهى «سيد درويش» الواقع في حي كوم الدكة حيث ولد، ليصبح من وقتها مزاراً يحمل عبق التاريخ يقصده من توارثوا حكايا جلسات درويش المسائية في المقهى من آبائهم الذين صاحبوه فيها فكانوا جمهوره الأول، أو من أجيال متعاقبة تدفعها أصالة اللحن إلى البحث عن أصالة النشأة. لا يزال المقهى محتفظاً بوجهه التراثي، حيث الراديو الضخم والجدران القديمة العالية تغطيها طبقات الغبار، والنوافذ الضخمة الكبيرة، والكراسي الخشب القديمة، إضافة إلى صور الفنانين بالأبيض والأسود. يقول صاحب المقهى محمد عبد المنعم: «منزل الملحن سيد درويش كان ملاصقاً لبيتي، وكان درويش ووالده يجلسان باستمرار في المقهى». ويشير إلى أحد أركان المقهى قائلاً: «كان يغني بعض أغانيه هنا في ركن القهوة، ويلحن أوبريتاته ومسرحياته. وكان يجلس بجواره عواد اسمه زكي مراد، والد الفنانة ليلى مراد، بينما كان ابنه زميلي في الدراسة». يزيد عمر المقهى على القرن، إذ يرجع تأسيسه إلى ما قبل ميلاد سيد درويش في العام 1982، وفق صاحب المقهى الحالي، علماً أن معالم عدة في الحي نسبت إلى سيد درويش. ويوضح صاحب المقهى: «كان الحي يسمى سوق كوم الدكة، وبعد الثورة تغير اسمه إلى شارع سيد درويش، ومسرح محمد علي أيضاً تغير اسمه ليكون مسرح سيد درويش». وكان للمقهى التاريخي رواد آخرون، فكان يتردد عليه الشاعر بيرم التونسي، يأتي صباحاً ويغادره مساءً، وفق عبد المنعم، «إضافة إلى الشاعر أحمد رامي، واثنين عاصرتهما في طفولتي هما: بديع خيري وزكريا أحمد». يقول أحد رواد المقهى العم عبد الشكور (50 سنة): «منذ أكثر من 25 سنة وأنا أجلس هنا القهوة لاستعادة الذكريات التي سمعتها من أبي عن سيد درويش وصوته العذب، والذي كان يعطر به آذان المستمعين من المارة بالحي». الحكايات نفسها سمعها العم علي عمران (60 سنة) فيقول: «لم يسعدني الحظ للالتحاق بإمام الملحنين، ولكن أبي حكى عنه كثيراً منذ صغري، في جلسات تتكرر كل ليلة يحكي فيها عن الحي قديماً وفي القلب منه سيد درويش. المقهى لم يكن مجرد موقع لتناول المشروبات أو إهدار الوقت، ولكنه كان بمثابة مكان روحاني. ويضيف بأسى: كل شيء في المنطقة تغير، كوم الدكة كانت معروفة بتخريج الفنانين، ولم يعد ذلك الآن». ويضيف أحد أقدم قاطني شارع سيد درويش العم عبد العزيز (70 سنة): «كانت مقاهي حي كوم الدكة، والمتمثلة في مقهى أحمد البربري و «منعم»، تجمع ممثلين وفنانين، فعليها كان يجلس محمد عبد الوهاب مع محمد البحر ابن سيد درويش، وأحياناً كانت تتحول إلى مواقع لتصوير مشاهد سينمائية. وبخلاف الرواد الأصليين لمقهى سيد درويش ممن يتلمسون فيه استعادة ذكريات، يظهر جيل جديد في المقهى من الشباب الذين يحبون الأصالة، منهم الشاب العشريني محمد علي الذي يقول: «منذ أكثر من عامين اعتدت الجلوس في المقهى في شكل يومي مع أصدقائي، فنحن نميل إلى كل ما هو قديم من الأفكار الخديوية ونهاية العصر الملكي وبداية العصر الجمهوري».