إذا كان من عادة الحكايات التي تتوخى إحداث صدمة، أن تبدأ عادة بالعبارة المأثورة «هناك شبح يخيّم...»، فإن هناك شبحين في الدورة السبعين لمهرجان «كان» السينمائي الدولي الذي يدخل يومه الرابع من دون أن يبدو في أفلامه ما يشكل مفاجأة حقيقية... شبحان، على الأقل، يخيّمان على الهدوء المرتبك، وبالتحديد الهدوء الذي يربكه الوجود المتضخم لرجال الأمن في كل زاوية وشارع، وقد بدا كلٌّ منهم كأنه أُمر بأن يبدو على الدوام متجهّم الوجه عالي النبرة حين يتحدث إلى عباد الله العابرين. ربما تكون تلك طريقة ناجعة لإرعاب الإرهابيين، وإن بدا أن الناس العاديين هم من يطاولهم هذا الرعب! مهما يكن، فلنبق نحن عند شبحينا اللذين دخلا المهرجان من باب عريض: «الشبح الأول» دونالد ترامب الذي أشير إليه كثيراً منذ سهرة الافتتاح من موقع سلبي بالطبع، لا سيما في مداخلة المخرج الإيراني أصغر فرهادي الذي كانت سياسات الرئيس الأميركي ردعته عن التوجه إلى هوليوود أوائل هذا العام لنيل جائزة أفضل فيلم أجنبي (لتحفته «البائع»). وهل يمكن الأمر أن يكون مختلفاً في مهرجان سينمائي يقوم أساساً على فن من الواضح أن الرئيس ترامب لا يحبذه كثيراً؟ والمهرجان يعطي المهاجرين حيزاً كبيراً من الاهتمام، ربما لكون السينمائيين أنفسهم لاجئين دائمين. أما الشبح الثاني فهو طبعاً، نيتفلكس، هذا التسونامي الذي يهجم اليوم على السينما في عقر دارها، في قدس أقداسها، «مدنّساً» نقاءها كفنّ سابع خُلق للصالات وللعروض الجماهيرية، محولاً إياها إلى جزء من لعبة الإنترنت ووسائط العرض الفردية. نعرف، وأشرنا إلى الأمر سابقاً، أن عرض «كان» أفلاماً صنعت أصلاً للتلفزة وللشاشات الصغيرة ليس بالأمر الجديد. ولكن، أن تصل «الوقاحة» إلى عروض «نيتفلكسية» في مسابقات «كان»... يا له من خرق للقواعد يندد به كثر من المشاركين في «كان». لكن، ليس الممثل الأميركي ويل سميث، عضو لجنة التحكيم، وحده الذي تساءل: «وما الضير في هذا؟ إن أبنائي الثلاثة يشاهدون فيلمين في الأسبوع في الصالات، والباقي في البيت!». واضح أن كلام سميث لا يعجب كثيرين. ويبقى أن نتساءل: حسناً ولكن، ما هو الحل؟ لا يملك أحد وصفة سحرية تنقذ السينما من هذا الشبح. فهل ثمة وصفة ضد سياسات الرئيس ترامب؟ هنا أيضاً لا جواب. لكن السينما ذاتها هي الجواب. فعلى الضد من سياسات ساكن البيت الأبيض تجاه المرأة، بين ضحايا أخرى له، يأتي الجواب عملياً: حضور المرأة في الدورة «الكانيّة» هو هذا العام أكثر منه في أي وقت مضى. وبالنسبة إلى المهاجرين الذين لا يحبهم «أبو إيفانكا» وناخبوه كثيراً، ها هم سينمائيون كبار، من فانيسا ردغريف إلى أليخاندرو إينياريتو مروراً بميشال هانيكي، يجندون أنفسهم وأفلامهم معتبرين القضية قضية العصر، هم الذين يضعون ناخبي الرئيس الفرنسي الجديد ماكرون رغم مواقفه المدافعة عن المهاجرين، على الضد من مواقف زميله الأميركي... وهذه المقارنة ذاتها يمكن اعتبارها جزءاً من العيد «الكانيّ» الذي بدأ... ولم يبدأ بعد. أما الصرخة المريرة التي لم تصل كما يبدو إلى أسماع المحتفلين بحاضر الفن السابع، ولكن ربما بماضيه أكثر مما بحاضره في هذه الدورة السبعينية، فتأتي من بعيد، من المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه الذي نشر في العدد الأخير من مجلة «ميديوم» المختصّة بوسائل الإعلام التي بات يعتبر سيداً من سادة دراستها الكبار، نصّاً يتساءل فيه عما آلَ إليه هذا المهرجان الذي كان محور استقطاب للمبدعين والأدباء خصوصاً، فإذا به يصبح منطلقاً لرجال الأعمال، وكان عيداً للشعب فصار مجرد احتفال جماهيري. ويذكّر دوبريه بأن المهرجان ولد في أجواء فرح الفرنسيين بحكم الجبهة الشعبية ذات يوم قبل الحرب العالمية الثانية، لكنه تأجل إلى ما بعدها حين اندلعت. ويخلص دوبريه إلى أن «كان» كان سابقاً جنة النقاد ومجلات السينما الكبيرة وصار اليوم ملعب مقدمي البرامج التلفزيونية وخبراء التواصل والمعلنين وقوى الميديا.