للعام الخامس عشر على التوالي ينظم مهرجان كان في دورته الجديدة التي تبدأ فعالياتها بعد أيام قليلة، تظاهرة لا يتوقف منظمو المهرجان عن إبداء حماستهم لها. وهي تلك التي تحمل عنوان «كلاسيكيات كان». والحقية أن العنوان يحتمل تأويلين، فهو من جهة يشير الى أفلام كلاسيكية من تاريخ السينما تعرض في «كان» من دون أن يشترط ذلك أن تكون عُرضت في أي من دوراته من قبل. بالتالي يتعلق الأمر بتاريخ السينما نفسه، وربما بما كان فات المهرجان في دوراته السابقة، فندم على ذلك وها هو يعوّض اليوم. ويشير من ناحية ثانية الى تلك الأفلام التي عُرضت في دورات سابقة ل «كان»، ففازت أو لم تفز، لكنها في الحالتين باتت تشكل جزءاً من تاريخ المهرجان، وتاريخ السينما بالتالي. والحقيقة أن الجمهور الذي اعتاد أن يتابع هذه التظاهرة، اعتاد على المعنيين معاً وقدّر دائماً أهميتها وإن كان قد تبدّى غالباً جمهوراً محصوراً يتألف من غلاة محبي السينما إضافة الى بعض الفضوليين الذين يتطلعون إلى مشاهدة أعمال كبيرة مرّت في تاريخ الفن السابع ثم غابت عن الأعين. النوعية لا الكمية مثلاً إذاً لا يمكن القول إن التظاهرة تستقطب من متفرجي «كان» أعداداً مدهشة، وبخاصة أن الجديد الذي يعرضه المهرجان في تظاهراته العديدة لا يترك للهواة مجالاً للمغامرة بزيارة تاريخ هذا الفن. غير أن للمسألة جانباً آخر يبدو أكثر إغراء. فالحال أن النسخ التي تُعرض هنا من الأفلام القديمة هي عادة ما تكون نسخاً مرممة وتعرض في «كان» للمرة الأولى. وهذا يعطي الأفلام حياة جديدة تساعد الدعاية التي يؤمنها لها المهرجان، على أن تعاد عروضها من جديد. وبالتالي فإن أي فيلم «كلاسيكي» يعرض في التظاهرة، سيكون من حظه أن يقوم بعد ذلك بجولة عروض تؤمن كتابات جديدة عنه وعن مبدعه أو مبدعيه. ومن المؤكد أن هذا لن يتغير كثيراً هذا العام. بل إن تغيّر فإلى الأفضل. وذلك بالتحديد لأن التظاهرة اختارت، في هذا العام، أن تقدم ما لا يقل عن ستة عشر فيلماً انتخبتها من مخزون عروضها ونجاحاتها السابقة. ومن بينها أفلام باتت أسطورية مع مرور الزمن، وذلك إضافة الى أفلام كانت في أعوام عرضها طرائف مثيرة للفضول ونسيت مع الزمن وها هي دورة «كان» لهذا العام تعيدها الى الواجهة، وربما لقيمتها التاريخية أكثر مما لقيمتها الفنية. الأفلام «الكانيّة» الستة عشر التي تعرض في التظاهرة من أصل ثلاثة وعشرين فيلماً – الأفلام السبع المتبقية لم يسبق عرضها في دورات «كان» السابقة -، سبق لبعضها أن حاز السعفة الذهبية بينما اكتفى البعض الآخر بجوائز أقل مرتبة. وثمة من بينها أفلام لم تفز سوى بشرف المشاركة في واحدة أو أخرى من تظاهرات «كان» في الدورات الممتدة بين العام 1946 (بداية المهرجان الرسمية) والعام 1992. وهي في مجموعها أفلام نَعَتها بيان التظاهرة بأنها من الأعمال التي صنعت تاريخ المهرجان في شكل أو آخر. في مقدمة الأفلام «معركة سكة الحديد» لرينيه كليمان وهو الفيلم الذي حقق وعرض فور انقضاء الحرب العالمية الأولى ليحكي فصلاً بطولياً منها. يومها مثل الفيلم فرنسا وفاز بجائزتين كبيرتين في أولى دورات المهرجان عام 1946: الجائزة العالمية الكبرى للمهرجان وجائزة لجنة التحكيم العالمية. وفي العام 1953 كانت الجائزة الكبرى من نصيب «كلفة الخوف» تحفة الفرنسي هنري – جورج كلوزو، الذي قدم يومها بوصفه إنتاجاً فرنسياً/إيطالياً مشتركاً. وللمناسبة لا بد أن نذكر أن هذا العرض للفيلم في دورة «كان» بعد غيابه الطويل، إنما هو تمهيد لجولة عروض له ستطول خلال بقية شهور العام لمناسبة احتفالات بكلوزو نفسه، وضمن إطار عروض لأفلامه له أخرى. لمتعة الفضول فقط من العام 1906 اختارت الدورة أن تعرض الفيلم المجري «كورينتا» لسلطان فابري وهو عمل عرض في دورة ذلك العام لكنه لم يحقق أي فوز، لكنه اعتبر مثيراً للفضول عامها، إذ أتى من هنغاريا التي كانت تعيش صخباً سياسياً عمّت أخباره أوروبا كلها فكان عرض الفيلم مناسبة للتذكير بما يحدث في ذلك البلد، وشيء مثل هذا يمكن قوله عن الفيلم اللبناني «إلى أين؟» لجورج نصر الذي عرض في دورة العام 1957 من دون أن يفوز بأي جائزة طبعاً. وها هو يعرض في تظاهرة هذا العام بنسخة مرممة بمبادرة من مؤسسة «ليبان سينما». أما من العام 1967 فيأتي ذلك الفيلم البديع الذي سجل عامها حضوراً كبيراً للسينما اليوغوسلافية (لكنه يقدم اليوم باسم صربيا الذي لم يكن موجوداً ولم يحمله الفيلم في ذلك العام!)، «قابلت حتى غجراً سعداء» لألكسندر بتروفيتش. ونعرف أن الفيلم فاز يومها بجوائز عدة من بينها جائزة المحكمين الكبرى – شراكة -، وجائزة النقد العالمي (فيبريشي). ومن العام نفسه تُعرض تحفة سينمائية أخرى باتت منذ ذلك الحين من علامات تاريخ السينما: الفيلم الإنكليزي الذي حققه عامذاك المخرج الإيطالي الكبير ميكالآنجلو أنطونيوني عن قصة قصيرة للأرجنتيني خوليو كورتاثار، «بلو – آب» من بطولة فانيسا ردغريف التي سيكون حضورها في المهرجان مع عرض فيلمها «حزن بحر» مناسبة لمشاركتها في التظاهرة التي ستقام من حول الفيلم الذي فاز عام عرضه بالجائزة الدولية الكبرى للمهرجان. وإذا كان العرض العائد الى العام 1969 يسمح باكتشاف واحد من الأفلام الإسرائيلية الأولى التي شاركت في مسابقة «كان» («حصار» لجيلبرتو تيفانو)، فإن عرض العام التالي 1970 يأتي ليضع المتفرجين أمام واحد من تلك الأفلام التي نقلت السينما العربية الجديدة، الآتية من موريتانيا في الشمال الأفريقي هذه المرة، الى واجهة اهتمامات السينمائيين في العالم كله، ونعني به «أيتها الشمس» لمحمد عبيد هندو، وهو الفيلم الذي تلى عرضه خلال العديد من السنوات التالية عروض عدد كبير من أفلام انتمت لتلك السينما العربية التي كانت حافلة بالوعود حينها. ومن العام 1976 يأتي فيلم المخرج الوثائقي وعالم الإناسة الفرنسي الشهير، جان روش «باباتو، النصائح الثلاث». ليتلوه من العوض الأكثر إثارة للصخب والوصول الى حد الفضيحة في تاريخ تلك السنوات «الكانيّة» فيلم الياباني ناغيزا أوشيما «إمبراطورة الحواس» الذي، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، لم يعرض يومها في المسابقة الرسمية، بل في التظاهرة الموازية «أسبوعي المخرجين» حيث لم يفز بأي جائزة. لكن إباحيته وفّرت له سمعة ما بعدها من سمعة. جذور حدوتة شاهين؟ في العام 1980 كان موعد الفيلم الأميركي «كل هذا الصخب» لبوب فوس، وهو الفيلم الوحيد الآتي من السينما الأميركية والذي تضمه مجموعة العروض هذه. ونذكر أنه فاز يومها بالسعفة الذهبية، ولسوف يقال دائماً في حياتنا السينمائية العربية أن مشاهدة مخرجنا المصري يوسف شاهين له، كانت في خلفية ولادة الفيلم الشاهيني البديع «حدوتة مصرية»! سعفة ذهبية أخرى هي تلك التي كانت من نصيب «رجل المرمر» الذي عرض في العام 1981 وهو الفيلم البولندي الذي حققه أندريه فايدا في ذلك العام ضمن روحية نضالات الاتحاد النقابي «تضامن» ما خلق جدالاً واسعاً حول السياسة والسينما وجعل لجنة التحكيم تتهم بالتسييس المقصود لفيم لم يره كثر واحداً من أفضل أفلام مبدعه. وكذلك سيكون الحال بعد عام واحد (1982) بالنسبة الى الفيلم التركي/الكردي «يول» – أي «الطريق» – الذي تقول حكايته أن مخرجه يلماز غوناي حققه وهو نزيل السجن بواسطة صديقه ومساعده شريف غورين. قيل يومها إن الفيلم على رغم نزاهته ومجازفته لا يستحق السعغة الذهبية التي فاز بها. ومن المؤكد أن العودة الى عرضه الآن بنسخة مرممة تعيد اليه ألوانه الجميلة، سيكون كفيلاً بمعرفة ما إذا كان السجال الذي انقضى عليه أكثر من ثلث قرن كان محقاً أو لا. ومن العام 1983 يأتي فيلم «أغنية ناراياما» لشوهي إيمامورا الذي بدوره حقق السعفة الذهبية في ذلك العام ليكون بعد ذلك بسعفة ذهبية أخرى نالها في العام 1997 واحداً من قلة في تاريخ «كان» نالوا تلك الجائزة الأسمى أكثر من مرة. وأما من العام 1992 فيأتي، أخيراً في هذه المجموعة، فيلم الإسباني فكتور إيريس، المعروف كفنان تشكيلي بقدر ما هو معروف كسينمائي، «حلم النور» الذي لفت الأنظار حقاً بين عروض ذلك العام حيث نال جائزة الفيبريشي وجائزة النقاد شراكة. ومن الواضح أن عرضه الجديد سيرينا ما إذا كان هذا الفيلم التجريبي التشكيلي شديد الخصوصية قد عرف كيف يصمد أمام عاديات الزمن. ... ومن خارج «كان» أما العروض السبعة الأخرى في التظاهرة نفسها، فتحتلها أفلام معظمها فرنسي في نسخ مرممة أيضاً، وهي تحضر في المهرجان «الكانيّ» للمة الأولى. وسنكون على التوالي: «مدام فلان....» (1953 لماكس أوفولس)، «الأطالانط» (1934، لجان فيغو، «دم أسود» (وهو فيلم حققه الفرنسي بيار شينال في الأرجنتين عام 1951)، «باباراتزي» (1963 لجاك نوزيار)، «حسناء النهار» (وهو طبعاً الفيلم الفرنسي التحفة الذي حققه لويس بونيال عام 1967). والى جانب هذه الأفلام الفرنسية الخمسة هناك فيلم أميركي واحد هو «ثمة نهر يعبر وسط المكان» (1992) أحد الأفلام النادرة التي حققها النجم الأميركي المخضرم روبرت ردفورد كمخرج. وأخيراً «لوتشيا» للكوبي هومبرتو سولاس (1968). وأخيراً لما كان تاريخ العروض في «كان» لم يقتصر أبداً على الأفلام الطويلة سواء أكانت روائية أو وثائقية، تقدم التظاهرة نفسها على هامشها برنامجاً خاصاً يديره كريستيان جون وجاك كرمابون بعنوان «تاريخ قصير للأفلام القصيرة التي عرضت في «كان» بين 1951 – 1999» وكما يدل العنوان يضم البرمامج مجموعة من شرائط آتية من بلدان عدة ومن سنوات متفرقة، سبق لها جميعاً أن عرضت في تظاهرات «كانية» متنوعة.