منذ زمان وجد بعض المشتغلين بالفلسفة ضالتهم في السينما كحل لتجريب حضور، ليس نظرياً فقط، ولكن جسدياً أيضاً. أي أن يمارسوا السينما عبر الكتابة عنها بصفة غالبة، أو أن يُركّبوا صوراً لها وحدة الفيلم المميزة عبر أفلام قوية ومائة التأثير. فهذا الفن الجامع له خاصية فتح المجال لكل التدخلات من أي نوع كانت كي تُمارس في داخله عملية عكس ما يجيش في القلب من عواطف شتى، وما يعتمل في الذهن من أفكار وأوهام. في الحالة الأولى نحصل على النص المنطلق، وفي الحالة الثانية نحصل على النص المحدد. لكن في الحالتين معا نحصل على الكتابة (نصاً أو شريطاً سينمائياً) التي تنطلق من مركز لتنتشر مُوَحِّدة ناطقة وحية بكلمات تُجلي كما تُمتع. وطبعاً قد يحدث التداخل، وعندها تكون للكتابة المحصل عليها صفة إبداعية أكبر وأعمق. فليس غريباً أن يسمى المخرج حينها مؤلفاً سينمائياً. ويعود الفضل العميم للفيلسوف الفرنسي الكبير العاشق للفن جيل دولوز من دون منازع في منح هذا الحضور قوة الاحترام اللازم حين ألقى في يمّ المشككين سِفْريه الكبيرين، «الصورة - الزمن» و«الصورة - الحركة»، كما كلما عَنَّ له أن يحاضر حول الفن السابع. وذلك حين أضاف عبر جهاز مفاهيمي قوي ومُقْنع في جميع الأحوال، مساراً تأويلياً للسينما محايثاً للتفكير، وقال إن الأهم ليس ما تقدمه الفلسفة للسينما لكن ما يمكن أن تقدمه السينما للفلسفة. طبعاً هو يقصد حين يتمكن «المفهوم» من الحصول على انتشار ملحوظ وتجسيد بائن وتحقق ما في الصورة الحية المتحركة. وفي قراءاته لأفلام سينمائية كثيرة مختارة ما يعضد ذلك، ويشرع بابا للنظر إلى السينما كرافد محترم للفكر. أمثلة من عندنا القريب لقد وجدت كل السينماتوغرافيات العالمية ضالتها الفكرية في ما تنتجه من أفلام خاصة، السويد بإنغمار برغمان، اليابان بكيوروساوا وأوزو، الهند بساتياجيت راي، فرنسا بجان لوك كودار، إيطاليا بأنطونيوني، أميركا بكاسافيتس... إلخ. ونريد أن نجد في السينماتوغرافيا العربية مخرجاً كشادي عبد السلام صاحب «المومياء».. وفي السينما المغربية التي تقترب من انشغالاتنا أكثر نجد اسمين إثنين منحا العلاقة بين السينما وما يتعالق بالفكر والسؤال الفلسفي بعض التجليات المحترمة. وهما مصطفى الدرقاوي والجيلالي فرحاتي. فهما معاً ذوا تكوين دراسي تحتل فيه الفلسفة دوراً هاماً، ولم ينسياه حين كتابة أفلامهم التي تنبني على رؤية شخصية لدور السينما في شحذ الوعي ومنافحة الوجود ومساءلة الذات بحسب بعدي الزمن والمكان. في هذا الإطار تجب إعادة مشاهدة أفلام المرحلة الوسطى من مشوار مصطفى الدرقاوي السينمائي قبل أن يخرج أعماله «الخطية السردية» الأخيرة. أفلام هي «قصة أولى» و «أنا لعبة في الماضي» و«الأليغوريا الكبرى» في تسعينيات القرن الماضي، أفلام تم تناسيها لوجود محيط يصعب عليه تقبل سينما مكسرة للثوابت «الكسولة»، ليس حباً في التكسير، لكن انطلاقاً من كون الصورة معادلاً موضوعياً للظلال الخفية المُشكلة للذات. هي نموذج للصورة - الزمن المميزة للسينما الحديثة وفق فيلسوفنا السالف الذكر. هي سينما ذهنية بالأساس تموج في رحاها الشخصيات جسداً وروحاً إن صح التعبير بما أنها تُقَدَّم أيضا في بعدها الحلمي والاستيهامي والمنشطر، إلى جانب بعدها الفيزيقي الواقعي، وهو ما يستتبع بالضرورة وقائع فيلمية متخيلة تملأها الرموز والعلامات «الغريبة» كالنار والدهاليز مثلاً والممارسات غير المألوفة: الصراخ والتنكر والمماهاة والتضاد... الشخصيات متداخلة مع ذواتها الباطنية المتعددة. لا نشاهد فرداً واحداً محايداً يغيب حالما تغيب ملامحه بل الفرد المتعدد. بخلاف مخرجنا مصطفى الدرقاوي، في أفلام الجيلالي فرحاتي، «شاطئ لأطفال الضائعين» وفيلمه الأخير «سرير الأسرار»، نقف هنا على السينما الطبيعية مع وجود الصورة- الزمن في تشكل مغاير. الشخصيات في هذه الأفلام تستعين بالمحيط كي تكتمل في وجود ناقص بالضرورة. من هنا كثرة التأطير في صورته السينمائية. اللقطة تتجزأ عبر المداخل والنوافذ والممرات لتمنح زوايا نظر مختلفة ومتعددة تبدو كعنصر بورتريه يجب جمعها بصرياً هذه السينما تجعل الإنسان يتحرك حاملا المأساة كمن يتلقفها ليعلن مأساة الوجود أصلاً، الكامنة في ما ترسب في الذاكرة. كل أعمال الجيلالي فرحاتي تشتغل على الذاكرة، أي ثقل الزمن. وبالتالي فما يُرى يتبدى في سؤال الذات الباحثة عن الخلاص ما يعيق صيرورتها الشاملة. هي السينما الكلاسيكية من حيث تقدمها عبر الشكل المتنور على عقدة/ حدوثة، لكن بالاختراق العمودي في كل لحظة/ لقطة. هذان المثالان المقدمان بشكل عام ليسا سوى مدخل لما يمكن أن نسميه بعض ملامح سينما ذكية في منتوجنا المخيالي العربي نود أن نلتفت إليه لنؤسس لغير السائد.