سيظل الإشكال النظري مرتبطاً لفترة طويلة بوجود الفيلم القصير حتى وإن ازدهر الفيلم في شكل ملحوظ. وهو لن يتخلص من إشكالاته لأنه تأسس على أمرين لا يساعدانه كثيراً، وهما الزمن والمال، كما بينت ذلك دراسات عدة: الزمن بما أن عمر فيلم قصير لا يدوم الوقت الكافي واللازم حتى يمكن اعتباره إنتاجاً قادراً على الدفاع عن نفسه في مجال التسويق المرتبط بالعرض العام الجماهيري باستثناء حالات نادرة. ولا أدل على ذلك من عدم وجود مخرج خالص للأفلام القصيرة فقط، معترف به بالصفة تلك. كما أنه لا يدر مالاً بما أنه لا يسوق في الغالب الأعم. هذه الوضعية تجعل للفيلم القصير مجالين فقط للتحقق والتواجد. أولاً مجال الإبداع الحر من حيث خصوصيته في مرحلة ما من المشوار السينمائي، ومجال العروض المهرجانية من حيث فرصة الحضور والانتشار. وهناك تكمن قوة الفيلم القصير. أي أنه قد يكون ميداناً للتميز الفني، للتجريب، للاختراقات الفنية المختلفة، وأيضاً قد يكون ميداناً للإنشاء والتدريب وممارسة السينما خارج كل الضغوط المالية والإنتاجية والموضوعاتية التي تتحكم عادة وبالضرورة في إنتاج الفيلم الطويل. وبالتالي يخضع الفيلم القصير للتأرجح ما بين الفيلم/الحد الأدنى المقلد والتابع لا غير والفيلم الإبداعي الذي يختص بقوة الطرح والشجاعة والفنية، أي ما بين الفيلم المدرسي والفيلم التجريبي بعبارة أخرى. وإشكالية الفيلم القصير توجد في مساحة التأرجح هذه غير المتحكم فيها والمفروضة كواقع في الكثير من الأحيان. لكن حالياً هناك حراك ملحوظ لجعل الفيلم القصير مجالاً إبداعياً متفرداً ومستقلاً وواعداً تماماً مثل الفيلم الطويل. سواء تعلق الأمر بالنوع السردي الحكائي أم النوع الوثائقي التسجيلي. وأبرز دليل مادي على هذا النزوع هو وجود وتنامي المهرجانات السينمائية في العالم المخصصة لعروض الفيلم القصير، وتخصيص الجوائز وحصص المشاهدة المرتبة، وتخصيص حلقات وندوات النقاش والجدال حوله. كما صار الفيلم وسيلة للتعريف بسينماتوغرافيا بالبلد الذي أنتجه ورعاه وأبدعه. واعتباره سفيراً للثقافة التي أرسته، كامل الأهلية كجنس تعبيري. مثله في ذلك مثل الشريط الطويل الموزع في القاعات. من خلال هذه المهرجانات العديدة يتحول الشريط القصير إلى حامل ثقافي وحامل إبداعي لصاحبه ثقافةً ومنشأً. والحق أن الفيلم القصير بإمكانه أن يكون كذلك باستقلال تام، فقد سبق لأغلب المخرجين العالميين الكبار أن أخرجوا أفلاماً قصيرة ذات نفس إبداعي قوي لم تفقد من قوتها ونفسها الفني مع مرور الزمن، على غرار أفلام رائد تيار الواقعية الجديدة روبيرتو روسيلليني في أعماله المعروفة وأفلام لويس بونويل السريالية وأشرطة مخرجي الموجة الجديدة الفرنسية. الفيلم القصير في المغرب في الفيلموغرافيا المغربية العامة، يحتل الفيلم القصير مكانة مهمة بحيث تتأكد فيه جملة من خصوصياته المعروفة. أولاً أنه في بدء السينما المغربية كان الفيلم القصير هو السائد وهو المعروف كإنتاج سينمائي. وثانياً تتجلى فيه كل إشكالات وجل ما يقال عن الفيلم القصير مع إضافة التميز المغربي المحلي. أول ما أنتج المغرب المستقل عام 1956 سينمائياً كان الفيلم القصير وذلك إلى حدود النصف الثاني من ستينات القرن الماضي. وفيه تبدت كل أخطاء البدايات و «البراءة» الإخراجية إن صح التعبير. وهذه الأخيرة تتجلى في الصبغة التلقينية التعليمية لأغلب الانتاجات التي كانت من تمويل مؤسسات حكومية آنذاك وموجهة للجمهور المحلي من أجل التوعية والتعريف. وقد وظف بعضها آلية الحكائي السردي، ومنها على سبيل المثال الفيلم الرائع «الغابة» للمخرج مجيد رشيش والذي أدى دوره الأساسي الممثل القدير محمد مجد. خلال هذه الفترة المذكورة كان الفيلم القصير هو التعبير السينمائي الأبرز بالمغرب. والحال أن جلّ المخرجين المغاربة بدأوا مسيرتهم السينمائية عبر بوابة الفيلم القصير. لكنه شكل لديهم مرحلة فنية لا غير، وليس غاية في حد ذاتها. أي مرحلة التدريب والتجريب والاستئناس بالإخراج في أفق المرور إلى إنتاج وإخراج الفيلم الطويل «المحترم» و «النبيل» كما يسود الاعتقاد أحياناً. وكثيرون استطاعوا تحقيق هذا المرور، بعضهم باقتدار فني، والبعض الآخر من دون نجاح يذكر. من نجح بينت هذه الأفلام اتجاهه الفني المستقبلي. مثل الجيلالي فرحاتي ومصطفى الدرقاوي وآخرين... وجدير بالملاحظة أن هناك عينة استطاعت إخراج أفلام قصيرة ناجحة أو فاشلة لكنها لم تستطع تجاوزها، وعوض ذلك استطاعت أن تجد لها موطئ قدم في المشهد السينمائي عبر الحضور في الإنتاج أو في مكان ما من دواليب الصناعة السينمائية المحلية. القصير المبدع تتميز السينما المغربية بلحظة فارقة جسدتها عام 1995، عام انعقاد الدورة الرابعة للمهرجان الوطني للفيلم. ففي حينه ثم اكتشاف أفلام قصيرة مختلفة عما أُلف سابقاً، قدمها مخرجون شباب أتوا من المهجر الأوروبي. وشكلت كشفاً جميلاً بما حملته من نفس إبداعي جديد، ومن قدرة على التعبير السينمائي كما هو معروف عالمياً. فقد كانوا مخرجين قادرين على الحكي السينمائي الجيد والجاذب. كانوا واعدين في شكل كبير، ويحملون أسماء نبيل عيوش ونور الدين لخماري وحسن لكزولي واسماعيل فروخي وغيرهم ممن يشكلون حالياً أبرز المخرجين المغاربة. وقد خلق ظهورهم في ذلك العام رجة كبيرة في المشهد السينمائي المغربي، بحيث سيكون لهم أبلغ الأثر على مخرجي المستقبل من الذي يعيشون في داخل البلد أولاً، وسنرى أبناء جيل منهم يدخلون غمار المغامرة السينمائية على غرار فوزي بنسعيدي ومحمد مفتكر وداوود أولاد السيد. وثانياً سيفتحون الأعين والمدارك على أهمية تشجيع إنتاج وإخراج الفيلم القصير مما ستكون له يد كبرى في النهوض السينمائي الآن.