أحرق أولى مجموعاته القصصية عام 1990، وكانت بعنوان: «نصوص الطين»، كان ذلك نتيجة وقوعه في حال إحباط شديدة من الواقع. بيد أن القاص عبدالرحمن الدرعان ما لبث أن اعتدل واقفاً متمسكاً بالحياة عبر الكتابة، فأصدر عام 2000 مجموعة قصصية بعنوان: «رائحة الطفولة»، عن مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، مستفتحاً قصصه بقصيدة للشاعر اليوناني قسطنطين كفافي: (وتقول لنفسك: سوف ترحل / إلى بلاد، إلى بحار أخرى / إلى مدينة أجمل من مدينتي هذه / لن تجد أرضاً جديدة ولا بحاراً أخرى / فالمدينة ستتبعك / وستطوف في الطرقات ذاتها / وتهرم في الأحياء ذاتها / وفي البيت نفسه سوف تشيب وتموت). إلى آخر القصيدة التي يقر فيها الشاعر أن ما من أرض ستبقى له على وجه الأرض بعد أن دمر حياته في ذلك المكان. ترى، هل كان اختيار القصيدة بمثابة الشفرة التي يمكن أن تختزل مجموعة القاص بين دفتي الكتاب؟ هل كان ثمة خط بين الشاعر اليوناني والقاص العربي عبدالرحمن يسمح في تضاريسه بإمكان الإشارة إلى تشابه في الرؤى والأفكار؟ ليس ذلك واضحاً تماماً إلا في مسألة النزوع الإنساني إلى تنشق ريح العبور إلى مصائر أجمل، وآفاق أوسع عبر نحت فني معجون بماء البدايات والزمن القديم. فالقاص هنا يلوذ بالذاكرة باحثاً عن مساحات الطفولة وملفات البراءة الأولى ليجوس خلالها في المهمل والهامشي في نظر الآخرين، ليحمله على جناح السرعة صوب القارئ في قالب قصصي يتميز بكثير من جماليات اللغة وعناصر الإقناع. لماذا الطفولة؟ يقول لأن الهرب إليها «يوفر قدراً من الحرية في الإفصاح أحياناً. الماضي أكثر الأماكن أماناً، لأن شهوده موتى. أليس كذلك»؟ الهامش بطلاً «الجزيرة/ الخميس 3 رجب 1422». وغالباً ما يكون الهامشي في نظر الآخر بطلاً وعظيم الحضور في منصة العمل الفني لدى القاص. والبطولة التي أقصد هي أنه ليس من الضروري أن يعيش النموذج المتعارف عن البطل في الكثير من حكايتنا الماضية بنفس المواصفات في قصص الدرعان، بل يمكن أن نتصور العكس، فنجعل من النافل بؤرة الحركة المؤثرة في سائر عناصر العمل القصصي. وهذا بالضبط ما لاحظه ريكس وارنر في اليوناني كفافي، «يمكننا وصف رأيه بأنه قلب البطولي وعكسه. إنه يحب التأكيد، لا على المأثرة الكبرى المتحققة، أو الأمر الناجح، وإنما على أهمية الخطوات الأولى والأحداث العابرة، وفي النهاية غالباً ما تكون النتيجة بطولة، لكنها البطولة الهادئة للفرد، لا بطولة القضية أو الموقف أو الرجل القوي المحترف» - ديوان كفافي «وداعاً للإسكندرية التي تفقدها – مائة وعشرون قصيدة) عن دار المدى/ ترجمة سعدي يوسف. غير أن مساعي كل من الكاتبين إلى الاحتمالات المرتقبة أو تلك المتروكة لفطنة القارئ تختلف عن بعضها البعض من ناحية النظر وزوايا الرؤية. ففي صلصال القص لدى الدرعان ثمة حرارة يمكن أن تخلق شبيهاً له، أو قريباً من عوالمه في مصهر التجربة القصصية. هناك مكونات رئيسة للمجموعة تلتقي فيها النظرة إلى الواقع بشيء من الإحساس بمدى المفارقة بين الكائن والممكن، بين الحلمي والمشتهى من ناحية وبين المادة الصلدة العجفاء التي تمر بها حياة الفرد العادي من ناحية أخرى. لكن الأمر في النهاية يقتفي أثر التحولات المفصلية لعناصر العمل القصصي بحسب فهمنا ودرجة اقترابنا من لغة الكاتب، وبحسب تعاطيات قلمه مع جماليات الإشارة المبنية على افتراض ذكاء المتلقي ونباهة وعيه أثناء اتصاله بالقصة. روح أدبية عميقة وساخرة المتأمل في المجموعة لا تكاد تفارقه الفكرة المعروفة لدى كثير ممن قرأ الدرعان حول كونه يتمتع بروح أدبية عميقة وساخرة، لماحة وغير معقدة في توصيل المعلومة. فالفتى في قصصه، هو تقريباً نفس الرجل الناضج في عملية الطرح الموضوعي لحدث ما، أو لفكرة ما. غير أن بين هذا وذاك فروقات لا تخفى دقائقها على القاص في مستوى الوعي والإشارة ومحصلة الفهم ونقل الموقف. بمعنى أن الدرعان يقف بوعي ضد الادعاء والتكلف، أو تحميل الشخصية فوق ما تستطيع، أو تمرير المشهد على حساب العمل ووعي القارئ. وخلال 14 نصاً قصصياً هي كل المجموعة تتحرك إبرة القراءة بين عوالم قروية مهمشة مدنياً واجتماعياً، وأزمان بيضاء تتطاير كأسراب الحمام بين المشهد ونقيضه، بين نيشان الحلم الناعم الأثير ورصاصة الواقع المدوية في العظم والرغبات. عبدالرحمن الدرعان من أهم وأنضج كتاب القصة المحليين، ولو قدر له أن يكون أكثر نشاطاً ونتاجاً في فنه من ناحية، وغير مهضوم الحق الأدبي على الصعيد النقدي من ناحية أخرى لكنا رأيناه بصورة أشمل وأوضح، تعطيه بالتأكيد مكانته الأدبية اللائقة به. * شاعر وروائي سعودي.