يبقى الأزهر والفاتيكان، كل في إطار اعتقاده وسياق تاريخه، المؤسستين الدينيتين الأكبر في العالم، كما يبقى الحوار بينهما ضرورياً، خصوصاً في ظل قيادتين مشهود لهما بالتفتح على الآخر وقبول الاختلاف، على منوال الإمام أحمد الطيب وقداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس الأول الذي يقوم بزيارة تاريخية إلى القاهرة هذه الأيام، ما يحفزنا على التفكير في مقاربات جديدة لقضية الحوار سواء بين المذاهب داخل الدين نفسه، أو بين الأديان المختلفة، أو حتى بين الأديان والعلمانية، وصولاً إلى حال من السلم الأهلي والتعايش الإنساني. على سبيل المثل، يتحدث الفيلسوف الأميركي جون دو كابوتو، ونظيره الإيطالي جياني دي فاتيمو، عن ضرورة ما يسميانه «الفكر الخافت» كطريق إلى هذا التعايش. والفكر الخافت، كما يفهمانه، هو طريقة في التفكير تقوم على سلب المفاهيم ونفيها أكثر مما تقوم على التحديد الإيجابي لها. إنه الفكر الذي ينطلق من نزعة نسبية فائقة تسم ما بعد الحداثة التي يندرج الرجلان في سياقها، ويقدمان اجتهاداتهما من خلال تنويعاتها التي دشنها فلاسفة التفكيك الفرنسيين. تعني النسبية الفائقة جوهرياً تلك النزعة النسباوية، التي ترفض كل حقيقة صلبة وتتنكر لكل ثابت مطلق، بحيث يتحول العالم معها إلى فسيفساء من المعاني التي لا مركز لها، إذ لا تثق هذه النزعة في مفهوم الحقيقة من الأساس. فوفقها، تنبع تصوراتنا عن العالم والواقع من أذهاننا نحن، لا من أي حقيقة خارجية، وهو ما يقود على صعيد نظرية المعرفة إلى صعوبة بناء منظور واضح أو نموذج إرشادي مستقر نسبياً، أو مجتمع علمي متماسك يُتصور له قدر من الدوام والتجانس. أما خطورته الكبيرة فتأتي على صعيد نظرية الأخلاق، إذ تنفي النزعة النسباوية مطلقية القيم الكبرى كالحق والخير والجمال، فلا الفضيلة ذات معنى إنساني عام، ولا القيم ذات مغزى كوني شامل، فجميعها وليدة سياقات محلية وخبرات جزئية وأدوار فرعية، ومن ثم فإن المعيار الأساسي للفضيلة هو ما تتواضع عليه أي جماعة بشرية أو حتى مجموعة متفاعلين ولو قل عددهم. وهنا يكاد يستحيل كل إنسان مشرعاً أخلاقياً لنفسه، فالفضيلة هي ما يراها كذلك، والرذيلة أيضاً. وفي اعتقادنا أن ما بعد الحداثة على هذا النحو إنما يفضي فقط إلى تعميق التوجهات النسبية للحداثة، وأن الفكر الخافت لا يعدو أن يكون وصفة تعمي على المشكلة ولا تحلها، بل تقود إلى اغتراب الروح الإنساني، فيما المطلوب وعي جديد يحفظ للحقيقة ممكنات حضورها كاملة، ويتجاوز في الوقت نفسه وثوقيتها الساذجة التي تعوق تعددية الطرائق التي ينظر إليها من خلالها. إن التدين الدوغماطيقي المتطرف، والإلحاد الصلب العدواني، يستحقان معاً الإدانة بكل تأكيد، وبدرجة الحدة نفسها، ولكن تلك الإدانة لن تكون ممكنة عملياً إلا على قاعدة الاعتراف بالإيمان كحقيقة والإلحاد كظاهرة، فهذا الاعتراف المتبادل هو النافذة التي يمكن من خلالها أن ينساب الفكر الخافت الذي يتسامح مع وجود إيمان روحاني معتدل، سواء تجاوز الأشكال التاريخية للأديان، أو جسد ديناً تاريخياً بذاته. كما يتسامح مع الإلحاد شرط أن يكون إلحاداً إنسانياً يشع بالمحبة القلبية للبشرية، والحدب الشديد على مصيرها. ومن ثم فإننا نطلب تعديلاً بسيطاً ولكنه يبقى مهماً في مصطلح الفكر الخافت ليصبح (التفكير الخافت) الذي يحقق الهدف نفسه، أي مد الجذور بين الحقائق المتناقضة، ولكن ليس على طريق دريدا ثم فاتيمي وكوبوتو، في تمييع تلك الحقائق وتفريغها من جواهرها المؤسسة لها، لتصبح محض نزعات نفسية متشظية، بل عبر توكيدها والتعاطف معها، فيبقى الأبيض أبيض والأسود أسود ولكن مع تخلي كل منهما عن أحاديته، والإصغاء جيداً للطرف الآخر، بهدف الفهم وليس مجرد السمع. على طريقة هابرماس، الفيلسوف، الوريث الشرعي لمدرسة فرانكفورت النقدية حيث يمكن للعقل التواصلي القبول الكامل للاختلاف من دون تفكيك للحقيقة. نحتاج بوضوح إلى تنشيط النزعة النسبية، كمفهوم حداثي، يؤمن بوجود حقيقة قائمة ومركزية كمفهوم مستقل بذاته عن تصوراتنا، مثلما يؤمن بتعدد تصوراتنا عنها. في سياق تلك النزعة، يصبح ممكناً للشخصية الإنسانية أن تمتلك تصوراتها الذاتية من دون تنازع كبير مع غيرها، فما تحوزه من رؤى ليس إلا تجليات للحقيقة، لا الحقيقة نفسها، لأن الحقيقة المطلقة لا تتعدد، وإن امتلكها شخص واحد لا يمكن لشخص مختلف أن ينال منها نصيباً. ومن ثم يصبح الجميع، عدا شخص واحد/ مذهب واحد/ دين واحد، من أنصار الباطل أياً كان شكله: ففي الدين هو الكفر، وفي العلم هو الخطأ، وفي القيم هو الكذب، وفي السياسة هو الانحراف عبر العمالة أو الخيانة وغيرهما.. الخ. ومن ثم يؤدي فهم الحقيقة على هذا النحو إلى نزعة مساواتية بين البشر، إذ بقدر ما يطرح الشخص الإنساني من رؤى ذاتية، يتعين عليه الإيمان بقدرة الآخرين جميعاً - وليس المميزين فقط- على طرح رؤى مختلفة. وأيضاً إلى حال تسامح داخل كل جماعة ثقافية، إذ لم تعد هناك حاجة إلى استخدام القوة أو العنف لقمع طرف من الأطراف، طالما كان المجال مفتوحاً للجميع للتعبير عن رؤاهم، والمشاركة في تقرير مصائرهم، عبر حوار مفتوح دائماً بين ذوات واعية وصولاً لأكثر الحقائق موضوعية. وهكذا لا تعوق النزعة النسبية، على عكس النزعة النسباوية، اليقين الروحي، حيث توجد ذات إلهية يشترك في الاعتقاد بها جموع المؤمنين، ولكنه لا يحول دون تعدد أشكال الإيمان، إذ يمكن لجماعات المؤمنين بناء تصورات مختلفة عن الذات الإلهية نفسها، وأن يسود التسامح بين تلك التصورات. وهنا يتبدى فارق حاسم لا بد من التوقف عنده بين الرؤية الوجودية والرؤية المعرفية في ما يخص مسألة اليقين الديني. فالدين (أ) لدى المؤمن به يمثل جزءاً من رؤيته للوجود، أي من هويته الداخلية، التي لا يمكن الانفصال عنها، ومن ثم فالشعور باليقين إزاءه يبقى أمراً طبيعياً. أما هذا الدين نفسه، بالنسبة الى شخص آخر يتبع الدين (ب) أو لا يتبع أي دين، فيمثل جزءاً من رؤيته المعرفية، خارجاً عن ذاته وليس ملتصقاً بها، يسعى إلى التعرف اليه باعتباره حقيقة خارجية بالنسبة اليه، يمكن أن يطرح حولها أسئلة ويفترض لها إجابات، لكن لا يمكن الجزم بصحة افتراضاته عنها، وإلا استحال متطرفاً يسقط فهمه المنغلق على معتقدات الآخرين. وهكذا يصبح فهم كل شخص لدينه هو جزء من عالم الوجود الداخلي، له حق امتلاك اليقين إزاءه، بينما يبقى فهمه لأديان الآخرين جزءاً من عالم المعرفة الخارجي، لا يمكن امتلاك اليقين في شأنه. هذا الفارق النظري بين الإلهام الوجودي، والحقيقة المعرفية، يبدو حاسماً، فالخطر كله ينبع من آفة احتكار الخلاص لدى أرباب الأديان المختلفة، والتي تبدأ صيرورتها باعتقاد دين ما، وأحياناً مذهب بذاته داخل هذا الدين، بامتلاكه الطريق القويم «الوحيد» إلى الله، الذي يعد سواه من الطرق محض باطل، يراوح بين الكفر والهرطقة، ثم تنمو في ظل اعتقاد بالمؤمنين به في وجود رسالة خاصة بهم، يتعين توصيلها إلى البشرية بهدف هدايتها إلى الحق المبين، حيث يتعين عليهم فرض طريقهم «الوحيد» للخلاص، ولنا أن نتصور آنذاك ما يمكن أن يترتب على ذلك الفهم من حروب عبثية ودماء بشرية يتم إهدارها على مذبح الدين/ المذهب/ الطائفة، في الطريق إلى امتلاك الحقيقة المطلقة. بأوضح قول: يمكنني كمسلم امتلاك يقين إيجابي إزاء الله بالصورة التي يرسمها له الإسلام، وإلا ما كنت لأبقى مسلماً. ولكن يصعب ادعاء مثل هذا اليقين نفسه إزاء (يهوه) أو (الآب) سواء بشكل إيجابى وإلا أصبحت يهودياً أو مسيحياً، أو في شكل سلبين وإلا كنت دوغماطيقياً متعصباً. وهكذا يمكن لكل شخص أن يمتلك قدراً من الحقيقة، وأن يؤمن في الوقت نفسه بحق الآخرين في امتلاك قدر مغاير منها. وربما أدرك باطناً أن القدر الذي يملكه من الحقيقة يفوق ما يملكه الآخرون منها، ولهذا يبقى على إيمانه الاسمي كما هو. غير أن الأمر يصبح هنا محصوراً في الأكبر من أو الأصغر، وتلك هي نسبية الحقيقة. ولم يعد، في المقابل، الخطأ هناك والصواب هنا أو العكس، حيث كانت الحقيقة مطلقة وبسيطة واختزالية إلى حد السذاجة. ومن ثم يمكن تحقيق تفاهم أصيل ودائم ينطلق من تعددية جوانب الحقيقة، ومن تواضع عميق، وإيمان صادق بنسبيتها، وتوزع أقدار مختلفة من الخير والفضيلة على عديد الأديان والمذاهب، فلا تستحيل الحياة على الأرض ناراً حارقة وصراعات دائمة، وهو أمر يسيء إلى صورة الأديان جميعاً، إذ يبديها وكأنها ضد الحياة والعمران.