ثمة بذرة خوف نبتت في قلب العالم الحديث تثير نوعاً من القلق إزاء الوجود، ينعكس في شعور عميق بالنسبية ممزوج بالخوف وعدم اليقين. نقول ذلك على رغم كل ما وفرته الحداثة من أبنية ممكن أن تجعل الحياة أكثر راحة، كما جعلت الإنسان أكثر أمناً في ما يتعلق بجسد هو حياته. ففي العالم التقليدى، على رغم قسوة الطبيعة وغياب القانون مما كان يرتب شعوراً بالقلق على الجسد، كان ثمة اطمئنان نفسي لدى أولئك الذين تربوا في أحضان الدين والأعراف، وفهموا العالم كإطار للثبات، أي للتقاليد الأخلاقية الراسخة، والأبنية المجتمعية المتلاحمة التي تسودها القبيلة ويحكمها العرق، كما يحتويها المكان الذي كان امتداده يبدو بلا نهاية، وكأنه كهف يحتوي حياة الإنسان والجماعة، فكم من أناس لم يخرجوا من بيوتهم أو محيطهم القريب، ربما لمرة واحدة في العمر، فلم يعرفوا شيئاً عن البلاد المجاورة لهم ناهيك عن البلاد القصية عنهم، وفي الأخير يلفها زمن ينساب هادئاً، ويتحرك رويداً رويداً، على هدى حركة الشمس شروقاً وغروباً، وعلى هدى إيقاعات الطبيعة حيث تغيرات المناخ تتوالى فصولاً وشهوراً. ومع بزوغ العالم الحديث توارت صورة هذا العالم البسيط (المألوف)، سهل الإدراك والتحكم، فالمكان التقليدي تحطم أولاً أمام حركة الكشوف الجغرافية التي كشفت عن عالم جديد، ثم تحطم ثانياً وثالثاً مع نمو وسائل المواصلات الحديثة من القطار إلى الطائرة، وأخيراً ثورة الاتصالات الحديثة. وفي موازاة تحطم صورة المكان (الكهف) لمصلحة المكان (الفضاء) تم تفكيك سطوة الزمن فلم تعد له تلك الصورة المطلقة، هادئة الحركة، منتظمة الإيقاع التي رعت باستمرار، تلك الفضائل والمعاني الموروثة الجالبة للأمان النفسي، بالانفتاح على مسيرة تغير لا تنتهي، وحركة تطور لا تتوقف، طالما أصابت الجميع باللهاث والكثيرين بالدوار. وبدلاً من أن تؤدي الثورات التكنولوجية المتتابعة، التي قامت على أساس العلم الحديث، إلى تمكين الإنسان من إحكام سيطرته على الطبيعة، وتكريس شعوره باليقين إزاء مصيره فقد أدت إلى العكس، حيث بدت تلك السيطرة واهية وخادعة بفعل نمو شعور عميق بالقلق وفقدان الأمن النفسي، ولدته تناقضات عمليات التحديث المتوالية، فعندما يشاهد الناس تغير عالمهم بسرعة، تختلط عليهم الاتجاهات، وتزوغ أبصارهم فيشعرون أكثر بالتيه والضياع. ولما كانوا يعيشون في خضم الأحداث نفسها لم يكونوا قادرين على إدراك الطريق الذي يسير مجتمعهم فيه. لذا، غالباً ما يشعرون بخطر فقدان هويتهم الموروثة وعالمهم المألوف، وبالقلق إزاء احتمالات زوال مجتمعاتهم التقليدية (الرحيمة). الشعور بالقلق وقد عبرت عن هذا الشعور بالقلق نزعة رومانسية ولدت في صيغتها الحديثة مع جان جاك روسو في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، قبل أن تنمو في النصف الأول من القرن التاسع عشر خصوصاً لدى الفلاسفة الألمان المثاليين، والشعراء الإنكليز الكبار الذين كانوا يفرون من جحيم المدينة الصناعية التي بلا قلب، إلى الريف الذي استحال مصدراً لإلهامهم، بل وأيضاً لدى أدباء اشتهروا بواقعيتهم ولكنهم تمكنوا، مثل تشارلز ديكنز في روايته «أوقات عصيبة» من تصوير المدينة الصناعية الجديدة والضخمة، باعتبارها الجحيم الأرضي، المدمر للأخلاق الإنسانية وللنزعة الفردية في آن. ومع ظهور نظرية التطور منتصف القرن التاسع عشر، أخذت صورة المجتمع التقليدي تتحطم بفعل النزعة النسبية الشديدة التي سرعان ما انتقلت من البيولوجيا، حيث أوحت بإمكانية استيعاب الإنسان في الطبيعة التي تتعرض لتغير مستمر، إلى المجتمع، حيث نمت الداروينية الاجتماعية، التي نظرت إلى المجتمع باعتباره كياناً متغيراً «ديناميكياً» وليس كياناً ثابتاً «استاتيكياً»، مع ما يصاحب ذلك من مخاوف يثيرها الفشل في التكيف مع تلك الأبنية المصابة بفيروس التغير. واليوم، وبفعل وسائل الاتصالات، والدعاية، والترويج وأقنية الاستهلاك المفرط، أخذ الإنسان يعاني من دوار شبه كامل، فهو إما أن يطاوع تلك الأقنية المستفزة فيقع أسيراً لها، وإما أن يقاومها مقاومة عابثة غالباً، على نحو يذكي شعوره بالحرمان أو الاغتراب أو كليهما. وفي قلب هذا الدوار تتم إعادة تعريف المفاهيم، فلم يعد الفقير هو من لا يملك سيارة بل الذي لا يملك سيارة حديثة أو كبيرة، وهذا الذي يملك السيارة الحديثة سرعان ما يراوده الشعور نفسه بالحرمان حينما تبرز الموديلات الأحدث منها بعد أشهر قلائل، وهكذا في صيرورة مقلقة على الدوام إما أن يستسلم لها، أو لشعوره بالحرمان إزاءها والاغتراب إزاء العالم الذي يصنعها. وفي هذا السباق ينطمس الجانب المتسامي لدى الإنسان، المتضمن لملكتي: القدرة على الاختيار وعلى الاستغناء، والملكة الأخيرة هي التي كان الحكيم الصيني كونفوشيوس اعتبرها عنواناً للإنسان الحقيقي، وطريقه الوحيد لامتلاك إنسانيته، والهروب من الشعور المحقق بالفقد والكآبة. وفي مقابل موت الإنسان الحقيقي أو الحكيم ينمو الإنسان الوظيفي، أو الاقتصادي المنشغل دوماً بتنمية عوائده المالية على نحو يمكنه من إنفاق عائد مادي أكبر على عدد ملذات أكثر. ومع ذلك النهم المادي يفقد الإنسان شعوره العميق بفرحة الكسب، وإحساسه التلقائي بمعنى «الرزق»، وفضيلة «الرضى» وذلك أمام طغيان مفهوم «الدخل»، الباعث على الضجر والقلق، والذي لا يثير في النفس ألقاً أو مرحاً مهما كانت قيمته؛ لأن الإنسان الحديث صار يعلم مسبقاً مصادر دخله التي ربما أتته كما توقعها فلا يسعد بها، لأنه كان عارفاً بها، ولأنه أيضاً قام بتوظيفها على نحو مخطط قبل أن تأتيه فعلياً، أو على الأقل تصور كيف سيقوم بتوظيفها. أما إذا أتته ناقصة عما توقعه فسيكتئب تماماً، حتى ولو كان هذه الدخول بالملايين، لأنه لا ينفعل بالقيمة الاسمية لها، كحصيلة تبدو له باردة بمقدار ما هي متوقعة ومخططة من قبل، بل ينفعل فقط مع حجم التغير في هذه القيمة زيادة ونقصاناً. وهنا، يقع الإنسان في «أزمة معنى»، حيث يستطيع الاستمتاع بوسائل ترفيه وأشياء مادية كثيرة، وبمستوي معيشي لم يتحقق لأي مجتمع إنساني من قبل. وعلى رغم كل هذا يشعر بالافتقار إلى شيء ما أساسي هو المعنى الكلي النهائي لحياته التي تظل، في غياب هذا المعنى، أقرب إلى مجموعة من التفاصيل المتتالية المتناثرة من دون غاية واضحة أو مصير معروف، لا تنطوي سوى على الخوف والقلق. وفي مواجهة هذا القلق يشعر الكثيرون بالحاجة إلى الهروب الدائم وإن كان في اتجاهات عدة، فثمة اتجاه حديث ساد طويلاً كان الناس يهربون فيه إلى الآخرين، أملاً في الشعور بالدفء في جوارهم حيث كان التوجه العام نحو المشاركة في النقابات العاملة بغرض الشعور بالجماعية، والأمن المهني، وممارسة نوع من التوحد الحديث بديلاً عن الوحدة القبلية أو العرقية. كما كان التوجه نحو الاشتراك فى الأندية الاجتماعية بحثاً عن أقنية بديلة للأسرة الممتدة التي كسرتها وفككتها مسيرة التحديث لمصلحة الأسرة النووية الصغيرة التي لا تكاد تشبع حاجة أعضائها القليلين إلى الحميمية والدفء. وفى المقابل ثمة اتجاه معاصر يدفع إلى الهروب عكسياً، من قلب المدن إلى حوافها، من مراكز العاصمة التقليدية إلى منتجعاتها القريبة أو البعيدة، حيث تحولت الرغبة من الاندفاع نحو الآخرين استشعاراً للدفء، إلى الاندفاع بعيداً عنهم استشعاراً للخصوصية والأمان النفسى. غير أن هذه الأزمة لا يمكن حلها على مستويات مادية، وهو ما أكدته تجارب الكثير من المجتمعات الحديثة، التى نما الشعور بالخواء في قلبها، لأنها تحتاج إلى علاجات من مستوى وجودي، قادر على توليد معنى حقيقي لحياة الإنسان ومصيره، هذا الحل ليس سوى توقيف مسيرة الانسحاب التدريجي للإيمان الديني من الخبرة الإنسانية، والتي بدأت ونمت في موازاة نمو العقلانية الوضعية الحديثة، حتى أفقدت الإنسان ذلك الشعور الجميل والعميق ب «العناية الإلهية». كان الفيلسوف الإنكليزى توماس هوبز، منذ القرن السادس عشر، تخيل الله وقد نأى بنفسه عن العالم، تاركاً الناس لمصائرهم الواقعية من دون عناية بهم، أو رغبة في خلاصهم أو ربما قدرة على تخليصهم. أما تنوير القرن الثامن عشر فقد وصل بهذه النزعة إلى نقطة ذروة لعلها بلغت درجة الإيمان المطلق بأولوية العقل، والثقة بقدرته على فهم العالم والظواهر المحيطة بالإنسان، وعلى إعطاء مغزى لحياته على هذه الأرض، من دون حاجة إلى عون إلهي، أو تفسير فوقي يسمو على هذا العالم. أما نيتشه، بإعلانه الصريح عن موت الله، في ما يمثل البيان الأخطر للعدمية، فقد رأى أن انتظار العناية الإلهية، منذ البداية، ليس سوى خنوع وتضحية بالروح الإنساني والوجود الفردي؛ وبكل ما لدى الإنسان من حرية وكبرياء ويقين ذاتي، ومن ثم يقرر نيتشه أن المسيحية ليست سوى وهم المسيح الذي لم يعرف الحياة أو يجربها حقيقة (كونه زاهداً متنسكاً تعالى على الملكوت الدنيوي انتظاراً وتوقاً إلى الملكوت السماوي) وأنه لو كان قد عرفها لكان تجاوز أوهامه عنها. وهنا يتبدى وكأن الإنسانية تفقد حس اتجاهها ومغزى وجودها، لتلقي بنفسها في أتون الخواء والعدم اللانهائي الذي لم يستطع نيتشه نفسه الإفلات منه، ولعله كان ضحية له. البعث والخلود إن مجرد غياب فكرة البعث والخلود، والناجمة عن الإيمان بإله خالق، وفي الوقت ذاته الاعتقاد بحتمية الموت، إنما يؤديان معاً وبالضرورة إلى الشعور بالخواء والعدمية، فإذا لم يكن وراء هذه الحياة حياة أخرى أو حساب، فلا بد أن يزداد الحرص على البقاء لأطول مدة وعلى الاستمتاع بها إلى آخر مدى، حتى يصبح هذا الاستمتاع - ولو بالرذائل - هو المثل الأعلى للحياة. ولأن الكثيرين يعجزون عن هذا الاستمتاع لضيق ذات يدهم، أو عن البقاء طويلاً بفعل اعتلال صحتهم أو مفاجآت الأقدار لهم، فلا بد من أن يكون الخواء والعدمية والقلق ستحيط بهم. لذا، فقد رأى باول تيليش، الفيلسوف الوجودي البروتستانتي المعاصر، وعلى العكس من نيتشه، أن حلول الله في المسيح كان ضرورة لتأسيس علاقة وجودية فعالة بين الإنسان والله، قادرة على أن تمد الإنسان باليقين والأمل فى الخلاص. معتبراً أن التلاقي بين الله والإنسان هو رسالة كل الأديان، وهو الطريق إلى تحقيق الفرح الأبدي في مملكة الرب، والذي هو بالتحديد رسالة المسيحية ف «الفرح الأبدي لا يمكن الوصول إليه بالعيش على السطح بل يتم إحرازه بالنفاد من السطح، نحو الأشياء العميقة في أنفسنا وفي عالمنا وفي الله. واللحظة التي نصل عندها إلى العمق الأخير لحياتنا هي اللحظة التي نستطيع فيها أن نعيش الفرح الذي يحوي الأبدية فيه والأمل الذي لا يمكن القضاء عليه، والحقيقة التي تبني عليها الحياة والموت؛ ذلك أن العمق هو الحقيقة، وفي العمق يكمن الأمل، وفي العمق يكمن الفرح». وفي الإسلام، القائل بحتمية الموت «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة» (النساء: 78)، لا تولد تلك الحتمية نظرة تشاؤمية كئيبة للوجود الإنساني، لأن الأجل في هذا التصور ليس النقطة النهائية للوجود. إنه على العكس، المستهل الفعلي لنوع جديد ومختلف كلياً من الحياة، هو الحياة الأبدية أو الخلود. مثل هذا الإيمان بالخلود هو ما يكسر حدة الخوف من الموت، بل ويدفع إلى مواجهته والتحرش به من قبل المجاهدين الذين يضحون بأنفسهم من دون شروط مقدمين معنى جديداً للموت باعتباره مجرد انتقال من دار الفناء إلى دار الخلود، وهو ما يحيله إلى فكرة عادية، لا تثير الجزع ولا القلق، بل تثير اليقين وربما الفرح أحياناً.