يشي اتجاه التطور في العلاقات الصينية- الأميركية خلال الآونة الأخيرة بتحول لافت في مسارها. فمنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، عمدت دوائر أمنية واستخبارية أميركية إلى استعداء الصين في إطار البحث عن عدوّ بديل توجّه إليه الولاياتالمتحدة طاقاتها الصراعية والتنافسية، حتى صارت الصين في نظر الرأي العام الأميركي «الخطر الأصفر»، الذي حل بديلاً للخطر الأحمر، الأمر الذي أفضى إلى تسميم العلاقات الأميركية - الصينية بفيروسات انعدام الثقة وسوء الفهم، على نحو بدت انعكاساته في تجدُّد التوتر بين الجانبين لأسباب متنوعة، وتسابقهما في الإنفاق العسكري. فما إن طالب الرئيس دونالد ترامب، في أول خطاب له أمام الكونغرس بزيادة الموازنة العسكرية الأميركية، التي تجاوزت 600 بليون دولار، بمقدار 10 في المئة، حتى كشفت الناطقة باسم مجلس الشعب الصيني، فو يينغ، زيادة موازنة الدفاع الصينية للعام 2017 بنحو 7 في المئة لتبلغ نحو 152 بليون دولار. غير أن عمليات المراجعة المستمرة للاستراتيجيات الأميركية تمخضت عن تبلور اتجاه سياسي لواشنطن يتطلع إلى تلافي استعداء القوى الدولية الصاعدة كالصين، باعتبارها آلية فاعلة لاستبقاء الريادة الأميركية وتمكين واشنطن من التصدي الناجع للتحديات العالمية الجديدة، بما فيها الصعود المتنامي والمقلق للتنين الصيني. فوفقاً لهذا الطرح، بوسع إصرار واشنطن على اعتبار الصين عدوها المستقبلي أن يثير حفيظة الحزب الشيوعي الصيني الحاكم ويؤجج جبهة للصراع لا طائل من وراء الانجرار إليها سوى استنزاف الموارد وهدر الطاقات. وبمقدور الولاياتالمتحدةوالصين، استناداً لهذا الطرح، تجنُّب هكذا مآل عبر تسريع بناء الثقة بينهما، ما ينتج منه تدريجاً هياكل للاستقرار والتعاون في القارة الآسيوية والعالم، شريطة أن تقلع واشنطن عن تسييس التبشير بقيم حقوق الإنسان والديموقراطية وحقوق الأقليات داخل الصين، وأن تتجنّب استفزاز الأخيرة من خلال الإفراط في التقارب مع خصومها الاستراتيجيين كالهند، أو أولئك المناوئين لها كحكومة تايوان والدالاي لاما. وحال حدوث ذلك، سيتسنى لواشنطن تعظيم مغانمها الاستراتيجية آسيوياً وكونياً، لاسيما أن ارتداء الصين ثوب القوة الإقليمية المسيطرة، بتنسيق وتفاهم مع الأميركيين، من شأنه تقليص كلفة الحفاظ على السلم والاستقرار هناك، إذ سيعني تقليصاً ملموساً لمخزون واشنطن الهائل من الموجودات العسكرية الكلفة الاقتصادية الباهظة ذاتها في المنطقة وعبر المحيط الهادي. وقبل ذلك كله، سيجنّب الأميركيين أضراراً وخسائر هائلة يمكن أن تتأتى من خلال الإمعان في استعداء الصين واستدعاء الصدام معها. ويبدو أن صنّاع القرار في واشنطن لم يدّخروا وسعاً في الأخذ بتلك الطروحات، حيث جنحت إدارة بوش الابن في أواخر حكمها لإعادة صوغ العلاقات مع بكين على أسس جديدة تركز على قضايا الاقتصاد، الطاقة، البيئة، الإرهاب، والأمن. وفي العام 2006، بدأ الرئيس الصيني هو جينتاو ونظيره الأميركي بوش الابن تدشين آلية مهمة لتفعيل التفاهم المشترك وتعزيز بناء الثقة، عرفت ب «الحوار الاقتصادي الاستراتيجي» المتمثل في جولات من المحادثات يشارك فيها مسؤولون اقتصاديون وخبراء طاقة رفيعو المستوى من الجانبين، تعقد مرتين سنوياً. وهكذا، أضحى الاقتصاد مرتكزاً أساسياً للتفاهم بين واشنطنوبكين خصوصاً عقب الأزمة المالية العالمية، التي أثارت قلق الصين على استثماراتها في الولاياتالمتحدة وأموالها التي كانت تمد بها الحكومة الفيديرالية من خلال سندات وأذون الخزانة، حتى صارت أكبر دائن لها. وعكست طمأنة الرئيس السابق أوباما الصين على أموالها لدى بلاده، وقتذاك، مدى الاحتياج الأميركي للتنسيق مع بكين للخروج من نفق الأزمة المظلم. ومن بعد الاقتصاد جاءت مسألة الطاقة، التي يوليها الجانبان أهمية ملحوظة، ليس فقط لأن التعاون في هذا المجال سيمنح علاقاتهما مزيداً من الزخم، ولكن لأنه سيساعد على بلورة آلية ناجعة لتعزيز أمن الطاقة العالمي ومواجهة تغيُّر المناخ، الذي يساهم البلدان معاً بالنصيب الأكبر في إحداثه. وما من شك في أن اتخاذ البلدين خطوات عملية لمناهضة الاحترار العالمي كإنشائهما مؤخراً مركزاً مشتركاً في بكين لبحوث الطاقة النظيفة، إنما يعطي مؤشراً إيجابياً لما يمكن أن يسفر عنه تعاونهما من نجاح، وترسيخ دعائم التعاون على أصعدة أخرى. وبمجيء أوباما، اكتسبت مساعي التفاهم الجديدة بين واشنطنوبكين، لاسيما آلية الحوار الاستراتيجي الاقتصادي، زخماً، إذ بات يعقد بقيادة ممثلين خاصين لرئيسي البلدين. كما أبدى أوباما حرصاً فائقاً على التقارب مع الصين معلناً أن العلاقة معها ستحدد شكل العالم في القرن الحالي، باعتبارهما قوتين عظميين. كذلك، بدد أوباما أحد أضخم جبال الجليد التي كانت تحول دون بث الدفء في علاقات بلاده مع الصين، بإعلانه أن إدارته لن ترهن أي تقدم في علاقاتها مع أي نظام بسجلاته في ما يخص التعاطي مع قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان والأقليات، مشدداً على أن الأولوية ستكون فقط للمصالح المشتركة. وقد لاحت تداعيات ذلك التوجُّه إبان زيارة هيلاري كلينتون الأولى للصين في شباط (فبراير) 2009، ثم خلال الحوار الاستراتيجي بين واشنطنوبكين في تموز (يوليو) من العام ذاته، إذ تجنّبت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة خلال هاتين المناسبتين التعرُّض لقضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان والأقليات، وركّزت على التماس تعاون بكين في التصدّي لتحديات عالمية كإصلاح الاقتصاد الدولي وإنقاذ البيئة العالمية، فضلاً عن مناهضة الإرهاب والحيلولة دون انتشار أسلحة الدمار الشامل، ولجم كوريا الشمالية، الأمر الذي أسس لحقبة مختلفة للعلاقات بين واشنطنوبكين، ربما لا ينقشع خلالها الكثير من خلافاتهما المزمنة، لكنها على الأقل قد تكمن حتى إشعار آخر. واليوم، وبرغم انتقادات دونالد ترامب اللاذعة للصين، سواء خلال حملته الانتخابية أو في مستهل ولايته، يبدو من غير المتوقّع ألا يقتفي الرئيس الأميركي نهج سلفه حيال الصين. فعلاوة على رؤيته الواقعية التي لا تضع قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان ضمن أولويات سياسة إدارته الخارجية، يتطلع ترامب، كرجل أعمال، إلى مكاسب اقتصادية تتمثل في إدراك تجارة متوازنة مع الصين، فضلاً عن تفاهمات استراتيجية مهمة، يأمل باقتناصها نتيجة علاقة براغماتية ترتكز على التوافق الملح بين واشنطنوبكين. وبناء عليه، لم يكن مستغرباً أن يتصدّر جدول محادثات الرئيس الصيني تشي جينبينغ مع نظيره الأميركي خلال زيارة الأول لأميركا هذه الأيام، قضايا على شاكلة الاقتصاد والخلافات التجارية، تهديدات كوريا الشمالية، التوتُّر في بحر الصين الجنوبي، في حين حرص الجانبان، خصوصاً الأميركي، على تجنب الخوض في الملفات السياسية الخلافية أو المسائل الاستراتيجية الشائكة. * كاتب مصري.