على رغم أن خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يأت بجديد يتجاوز تصريحاته لوسائل إعلام عربية وأجنبية عشية جولته الشرق الأوسطية المقتضبة والخاطفة، فقد شكّل موقف أوباما من قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية الأديان في البلدان العربية والإسلامية أساساً مهماً تستند عليه عملية مصالحة واشنطن مع تلك البلدان وإعادة صياغة العلاقة. فبإعلانه رفض إدارته التدخل في الدول العربية والإسلامية أو ممارسة الضغوط على الأنظمة الحاكمة فيها لحملها على تحسين سجلاتها في قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان والأقليات، يكون أقر على الملأ وفي شكل صريح بأن إدارته لن تجعل من مثل هذه القضايا حائلا يعوق التقارب والتفاهم المشترك بينها وبين تلك الدول. بمعنى أنها لن ترهن أي تقدم في علاقاتها معها بما يخص تلك القضايا، وستكون الأولوية للمصالح المشتركة، على ألا تتوقف واشنطن عن الدعوة إلى إتخاذ خطوات إيجابية وعملية في هذا الخصوص. وبعد مباشرته مهام الرئاسة، بدأ أوباما تطبيق أفكاره في شأن التعاطي مع قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان ومسائل الأقليات في سياسته الخارجية، وكانت البداية من الصين ومن بعدها روسيا وتركيا ثم دول أميركا اللاتينية والوسطى وصولا إلى الدول العربية والإسلامية، فقد آثر أوباما التصالح مع تلك الدول وغيرها عبر تنحية مثل هذه القضايا الخلافية معها جانباً ليفسح المجال أمام علاقات مصلحية، بما يساعد على تعظيم الاستفادة الأميركية من مواردها أو ثقلها الجيواستراتيجي عبر تنحية الخلافات، المزمنة معها حول هذه القضايا، جانباً. ففي ما يخص الصين، والتي دأبت واشنطن على نقد ملفها في مجالات الديموقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات وحرية الأديان، وحقوق الملكية أعلنت بكين أن ما يعتبره الأميركيون انتهاكاً لحقوق الملكية الفكرية إنما هو من قبيل التعلم وأن الإغراق اجتهاد ومنافسة، أما حقوق الإنسان والاعتقاد والديموقراطية فلا تعدو كونها شأناً داخلياً صرفاً، وعمدت الصين إلى التأكيد على خصوصية تجربتها في التحول السياسي والاقتصادي واقتناع الشعب الصينى بمساحة الديموقراطية التي يعيش في ظلها. وبالتوازي مع تهديداتها بفرض إجراءات مضادة مماثلة رداً على أي توجه أميركي من هذا القبيل، أصدرت الحكومة الصينية بعد يومين فقط من نشر الخارجية الأميركية تقريرها السنوي حول أوضاع حقوق الإنسان في العالم وانتقدت فيه سجل الصين، التقرير الصيني السنوي السابع حول الممارسات الأميركية في ما يخص أوضاع حقوق الإنسان، وقد رصد التقرير ما سماه الانتهاكات الأميركية لحقوق الإنسان ضد الأقليات داخل أميركا وفي مناطق عدة من العالم كان من أبرزها العراق ومعتقل غوانتانامو. بيد أن أوباما أضفى تغييراً مهماً على سياسة واشنطن إزاء بكين في ما يخص هذا الأمر، حيث قامت هيلاري كلينتون في شباط (فبراير) الماضي بزيارة لبكين أشارت خلالها إلى أن الولاياتالمتحدة ستواصل مطالبتها بكين بتحسين أوضاع حقوق الإنسان، على رغم أنها تعرف تماما ما سيقول الصينيون في هذا الأمر، وأكدت كلينتون أن سجل نظام بكين في حقوق الإنسان لن يعيق التعاون الأميركي الصيني في المجالات الأخرى ولن يمنع الدولتين من العمل معاً للتعامل مع قضايا أكثر إلحاحاً من وجهة نظرها، كالأزمة المالية العالمية والتغير المناخي والتحديات الأمنية مثل برنامج الأسلحة النووية لكل من كوريا الشمالية وإيران، وهي الأولويات التي تصدرت بالفعل جدول أعمال زيارتها لبكين. ولما كانت روسيا تمد أوروبا بما يربو على40 في المئة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي، حيث تمر في الأراضي الروسية خطوط أنابيب الغاز المصدرة من وسط آسيا والقوقاز وبحر قزوين، فقد اضطرت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الأوروبيون إلى غض الطرف عن الملف الروسي غير المرضى في مجال حقوق الإنسان والديموقراطية، كما تراجعوا عن فكرة معاقبة موسكو بتجميد عضويتها في مجلس أوروبا بسبب عدم تنفيذها البروتوكول ال 14 في المعاهدة الأوروبية حول حقوق الانسان والذي يسمح بالنظر السريع في الدعاوى القضائية، وهو ما يعطل عملية إصلاح المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وما كانت وشنطن لتقدم على ذلك لولا إدراكها للأهمية اللوجيستية لروسيا بخصوص أمن الطاقة الأوروبي، علاوة على محورية دورها في ما يتصل بتسوية قضايا أمنية مقلقة كالبرنامج النووي والصاروخي لكل من كوريا الشمالية وإيران. ولهذا السبب وأسباب أخرى، تعمد أوباما خلال زيارته تركيا في نيسان (أبريل) الماضي عدم توجيه الانتقادات لنظام أنقرة في ما يخص التعاطي مع قضية الأقليات هناك، مكتفياً بتوجيه النصح والاستفادة من خبرة أميركا في هذا الأمر. وبالنسبة إلى دول أميركا اللاتينية، خصوصاً فنزويلا وكوبا، لم يتردد أوباما في مد يد المصالحة إليها بعد أن التقى الرئيس الفنزويلي شافيز إبان قمة الأميركتين في شهر نيسان (أبريل) الماضي، متلافياً الخوض في قضايا شائكة كالديموقراطية وحقوق الإنسان. وبإعلان البيت الأبيض نية الرئيس أوباما زيارة القاهرة ومخاطبة العالم الاسلامي منها، بدا للكثيرين داخل أميركا وخارجها أن الرئيس الأميركي عازم على أن يمضي قدماً على الدرب ذاته ويحرر علاقات بلاده مع دول العالم العربي والاسلامي من أسر الضغوط التي دأبت واشنطن على ممارستها لحمل الأنظمة الحاكمة في تلك الدول على تحسين سجلاتها في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان، خصوصاً الأقليات. ومصداقاً لذلك، استبق أوباما زيارته بتصريحات تحمل في ثناياها رغبة في التخلي عن هذا النهج التعسفي، حيث أكد في مقابلة أجرتها معه الإذاعة الأميركية العامة «ناشيونال بابليك راديو» عشية زيارته الرياض، أن بلاده لا يمكن أن تفرض قيمها على دول أخرى لها تاريخ وثقافة مختلفة، مشيراً إلى أنه إذا كانت هناك انتقادات لطريقة عمل النظام المصري فإن وظيفة الولاياتالمتحدة ليست المحاضرات بل تشجيع ودعم القيم التي لا تصب في مصلحتها فقط بل في مصلحة الكثير من شعوب العالم. وكان أكد في حديث آخر مع هيئة الإذاعة البريطانية، إلى أن هناك قضايا تتعلق بحقوق الإنسان في بعض بلدان الشرق الأوسط ينبغي معالجتها، وأكد أن فحوى الرسالة التي ينوي توجيهها للعالم الاسلامي من القاهرة هو أن قيم مثل الديموقراطية وسيادة القانون وحرية التعبير والأديان، ليست قيماً أو معتقدات غربية يتم التبشير بها في ربوع ذلك العالم وإنما هي قيم ومعتقدات عالمية يمكن لدوله وشعوبه تطبيقها وإقرارها كجزء من هويتهم الوطنية. وحين كالت منظمة «هيومان رايتس ووتش «الأميركية انتقاداتها له جراء اختياره القاهرة مكاناً لتوجيه خطابه للعالم الاسلامي مخافة أن يفسر ذلك الاختيارعلى أنه تأييد ودعم لنظام الرئيس مبارك، الذي ترى المنظمة أن سجله في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان غير مشجع، كما دعت الرئيس أوباما إلى الضغط على مبارك لحمله على تحقيق تقدم في هذا المضمار، وإلى أن يوضح للمصريين أن ملف حقوق الإنسان في بلادهم يمثل أحد الاهتمامات المركزية لإدارته، رفض أوباما تلك الانتقادات. وفي مقابلة أخرى مع محطة «إن بى آر» الاخبارية، رد على المنظمة بالقول: «من الخطأ الاقتراح بأنه لا يجب أن نتعامل مع دول العالم إذا لم تف بكل مطالبنا»، مشيراً إلى أن جل ما يمكن أن تقوم به بلاده في هذا الخصوص هو التشجيع وأن تقدم النموذج الذي يمكن أن يحتذى به. وقياساً على النهج الذي انتهجته إدارة أوباما حيال تعاطي دول كالصين وروسيا وتركيا وأميركا اللاتينية مع قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان، يمكن فهم تلك المرونة الأميركية في شأن القضايا ذاتها في مصر وسائر الدول العربية والإسلامية، حيث تعظيم الإدارة الأميركية الجديدة لاستفادتها من موارد تلك الدول ومقدراتها الجيوبوليتكية، فضلاً عن الحاجة الملحة إلى دعم دولة بوزن مصر على أكثر من جبهة، بدءاً بإحياء وتنشيط عملية السلام بين إسرائيل وكل من سورية والفلسطينيين، مروراً بدعم السلطة الفلسطينية وكبح جماح حركة حماس والحيلولة دون تسرب الأسلحة إليها عبر الأراضي المصرية، وصولا إلى حشد تأييد عربي وإسلامي لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، إلى جانب تقديم العون للمشروع الأميركي في العراق، وانتهاء ودعم محاربة ما يسمى الإرهاب في أفغانستان وباكستان. * كاتب مصري