من أهم منجزات حضارتنا الإسلامية تلك الإبداعات الفكرية في رسم منهج مُحكم للاجتهاد الفقهي، ظهرت خلاله عبقرية الأصوليين في الكشف والإبانة عن طرقٍ استدلالية دقيقة تستوعب النوازل المستجدة في غالب مجالات الحياة. تستلهم هذه المنهجية نصوص الوحي المقدس وأفعال الجيل الأول وفهومه، والمصلحة الإنسانية المعتبرة، والعرف السائد في المجتمع، والعقل المؤيد بمدركات النظر المعروفة (القياس على سبيل المثال)... وغيرها. وعبر أجيال متوالية نضج هذا الإرث الديني وعالج الكثير من مشكلات الفرد والمجتمع، بمعنى أنه تم التحقق من تنزيله الواقعي، أو لنقل تم اختباره التجريبي كي نعرف صلاحية الشرع ومدى ظهور المصلحة والسعادة في حياة الناس جرّاء هذا العمل؛ بحسب عبارة الشاطبي صاحب الموافقات في قوله: «إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً « (2/9 ، طبعة دراز). أمام هذا العطاء التراثي الذي زاد من ثرائه حجم الاختلافات بين الفقهاء وتطويرهم أدوات المعرفة المميِّزة للصحيح من الخطأ، برزت مسائل فقهية تجاوزت الشأن النظري وتماهت مع الظروف المحيطة بها سياسياً واجتماعياً ومذهبياً، وتحوّل القول بها مواجهة مع الآخر الديني واشتعلت صراعات فقهية، ظاهرها الاجتهاد وباطنها التغالب المذهبي والمصلحي على النفوذ والتأثير المجتمعي. هذا النوع من المسائل، مع قلّته العددية في مجمل التاريخ الإسلامي، ظهر في مسائل ومواطن كثيرة، مثل فتوى الإمام مالك في عدم صحة طلاق المكرَه وفُهِمت على أنها نقضٌ لبيعة الخليفة المنصور، وفتوى ابن جرير الطبري في جواز مسح القدين بدلاً من غسلهما ما أدى إلى رميه بالتشيع ونقمة حنابلة بغداد عليه، ومثله فتوى ابن تيمية في عدم وقوع البينونة الكبرى من التلفظ بالطلاق ثلاثاً، ما أدى إلى سجنه ومحنته، وغيرها كثير. وفي هذا المقال سأعرج على مسألة جواز سماع المعازف كمثال لتأثر الفقه بالواقع، وكيف تحولت من مسألة فقهية يختلف فيها الفقهاء كغيرها، إلى مسألة يتنازع حولها الأتباع وتصبح برزخاً للتصنيف والاستقطاب، وفي هذا المقام يجدر التنبيه إلى أن مقصد التناول هنا إنما يخصّ معاقد النظر فيها وليس الاستيعاب في تفاصيلها، بتأكيد مواطن الخلل المنهجي بدلاً من عرض المسألة وذكر الراجح منها، وربما استعملت في بيان ما أراه خللاً في النظر الاجتهادي مصطلحَ «المغالطات»، وهو متداول في المجال الأصولي تأثراً بعلم المنطق. فقد ذكر الجرجاني أن «المغالطة: قول مؤلف من قضايا شبيهة بالقطعية أو الظنية أو بالمشهورة» (التعريفات، تحقيق محمد صديق المنشاوي، دار الفضيلة، ص 187)، وقصده أن المغالطة هي التفكير باستعمال أساليب شبه منطقية للخداع، والتفنن في استعمالها من أجل إنتاج الكذب، وإيقاع الآخر في الزيف، وقلب الحقيقة من طريق الإبهار والدهشة. وتكمن مشكلة المغالطات في أنها تنطلي على الكثير من غير المتخصصين ويستعملها الكثير من الجماهيريين لاستقطاب فئة أو التنفير من فكرة أو حالة ما، ونظراً إلى أهمية هذا الموضوع سأقسمه مسائل على النحو الآتي: أولاً: من المهم التنبيه في البداية إلى أن المقال ليس غرضه إصدار فتوى، ولا الترجيح بين الآراء، ولا نصرة فريق على آخر، بمقدار ما هو تسليط الضوء على بعض معالم الخلل المنهجي الذي ظهر لي من بحث هذه المسألة، وكيف وصلت درجة القطعية في إباحتها أو تحريمها إلى ما لم يسبق أن جرى مثله في الكبائر الظاهرة، وكيف أصبح المجتمع الديني يُصنِّف أفراده بين من يجيز المعازف وبين من يحرمها، ولكلٍ إسقاطاته الخاصة على الآخر. هذا التحول في التعامل مع هذه المسألة هو ما يجب التأمل والنظر فيه، كما يجب التنبيه إلى أن المقصود بالمعازف ليس الغناء المعروف في الصدر الأول الأقرب للإنشاد الديني اليوم؛ بل المقصود هو الغناء المصاحب للموسيقى المعروفة، كما يجب إخراج ما يحتف بالغناء المعاصر من رقص خليع ومجون اللفظ والهيئة لأنها محسومة وليست مقصودة أيضاً في هذا المقال. ثانياً: لماذا مسألة سماع المعازف؟ هذه المسألة تعتبر من أكثر المسائل سجالاً ونقاشاً بين طلبة العلم، ربما في السعودية والخليج بشكل مخصوص في وقتنا المعاصر، وقد تصبح مجالاً للإنكار والاتهام عندما يذهب أحد الفقهاء أو الدعاة نحو الجواز وإباحة السماع؛ بل إن مجرد إدراجها في مجال المختلَف فيه قد يثير الصراع بشكلٍ غير محمود، كيف وقد نقل بعض العلماء في تحريم المعازف الإجماع على ذلك؟! وأوصل بعضهم قطعية التحريم بحصر أكثر من خمسين عالماً حكوا الإجماع على حرمة الغناء؟ (انظر: http://www.altarefe.com/cnt/ftawa/317). وحكاية الإجماع هنا مستحيلة منهجياً، لأن الإجماع له شروطه المشددة التي لا يمكن أن تقع إلا في المسائل الكبار التي عليها جمع من النصوص الصريحة، لأن مخالفته حينئذ سوف تعتبر خروجاً عن الشرع بما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهو ما لا يتوافر في الإجماع على حرمة المعازف. وقد تكون هذه الحكاية من باب الإجماع السكوتي ذي الدلالة الظنية، المختَلَف على حجيته. في المقابل، هناك من حكى بإجماع أهل المدينة، وهو ابن الطاهر، على جواز ضرب العود (انظر: نيل الأوطار للشوكاني، طبعة دار الحديث 1993، 8/114). وللشوكاني نفسه كتابٌ يفند فيه حجية الإجماع على تحريم المعازف والغناء (انظر: كتاب إبطال الإجماع على تحريم مطلق السماع، منشور مع رسائل أخرى، مطبعة أنور محمدي، لكنو). والعجيب في هذه المسألة أن أبا الفتوح أحمد الغزالي الواعظ أخا حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ألّف كتاباً سمّاه «بوارق الإلماع في تكفير من يحرم السماع»؟ هذا الدليل الأهم (الإجماع) في التحريم أو الإباحة يقع ضحيةً لمغالطةٍ منهجية الهدفُ منها إثبات ضعف أدلة الخصم وتأكيد منعٍ من الغريب أن تُساق له كل تلك الأدلة والنصوص، ولم أدخل بعد في مبحث الأدلة (نصوص القرآن والسنة)، لأن هناك خللاً ظاهراً في الاستدلال بها، وضعفاً منهجياً في عدم الجمع بين النصوص وأطراف الأحاديث المستدَل بها، بينما الاستدلال يحصل باجتزاء لفظ منه واستنباط التحريم المباشر وفقاً لظاهر المعنى، كما أن هناك خلطاً في بيان معنى اللهو والغناء والدف والكوبة والزمّارة التي وردت فيها أحاديث التحريم، فضلاً عن انتفاء أي نص صريح من القرآن أو السنة لا معارض له يدل على الحكم المباشر في هذه القضية، وهذا النفي يجعل من الغرابة حينئذٍ الجزم القاطع بالتحريم أو الإباحة، لأن الشريعة لو أرادت النهي المباشر عن فعل أو الأمر به لكان الدليل واضح المعنى لا يحتاج إلى تأويل، كما في تحريم القتل والسرقة والزنا والربا والغيبة والنميمة وغيرها، فكيف إذا عرفنا أن هذه المسألة تم تأليف أكثر من مئة وعشرين كتاباً ورسالة علمية بين من يحلّ ويحرّم الغناء والمعازف، وغالبها يعتمد قواطع الأدلة في إثبات حججها العلمية (انظر ببليوغرافيا مؤلفات الغناء والسماع والمعازف: http://www.aruc.org/ar/web/auc/search). ثالثاً: يظهر في هذه المسألة من خلال مراجعة أدلة كل فريق، أن هناك أصولاً في النظر إليها غابت عن البعض وأعتبرها أساساً في بحث هذه القضية، فالشريعة الإسلامية بدليل الاستقراء جاءت بما يجلب للإنسان النفع ويدفع عنه الضرر (انظر: الموافقات، طبعة دراز 2/13)، وفي هذه المسألة ما هو الضرر الرهيب الذي يقع عند سماع المعازف؟ وماهي المفسدة التي تجعل حكمها عند المحرّمين تصل للقطع الجازم بالمنع؟ في حين أن جنس المحرمات القطعية ظاهر ضرره وفساده، بينما هنا نحتاج إلى التكلّف في إيراد مفاسد غالباً ما تحصل من أمور خارجية أو مُحتفّة بممارسة الغناء، أو مبالغة تَضيع معها الأوقات والواجبات أكثر من سماعه المجرد. أيضا الشريعة في الغالب لا تحرّم أمراً ظهر للإنسان العادي محبته فطرياً، كالصوت الجميل من إنسان أو حيوان أو آلة، أو الصور الجميلة لإنسان أو مخلوق أو طبيعة، أو الطعام اللذيذ، أو اللباس النظيف والجميل، فهذه الطبائع التي يتشارك فيها الناس لا تُمنع إلا إذا أصبحت سبباً لضررٍ أو سرفٍ أو اكتنف العمل بها محرم معلوم الضرر، وسماع المعازف لا ينبغي أن يخرج عن هذا الأصل إلا لعلة منعٍ معلومة، والناطق باسم الشرع لا ينبغي أن يُجرّد الأحكام من عللها ومقاصدها الظاهرة (انظر كتاب: آداب السماع والوجد لأبي حامد الغزالي، من إحياء علوم الدين، طبعة دار الكتب العلمية، 2/292-332). رابعاً: تُطرح هذه المسألة وتبلغ عند طرفي الجدال حداً بالغ الخصومة، ما يثير السؤال في أصل هذا الاختلاف، ولماذا تحوّل نظرياً وعملياً برزخاً يصنِّف الناس ويحكم على أحوالهم الدينية؟ ولعلي أطرح مقاربتين قد تكونان سبباً في هذا التعاطي الحاد لمسألة المعازف والغناء، الأولى متعلقة بالصراع مع الفلسفة، ففي القرن الثالث الهجري برزت المدرسة العربية الفلسفية المتأثرة بالتراث الإغريقي بشكل كبير، من خلال الكندي والفارابي وابن سينا على وجه الخصوص، وكل أولئك الفلاسفة الذين كانت لهم سجالاتهم الكلامية العنيفة مع أهل الحديث والأشاعرة كانوا يمتازون بالعناية الفائقة بالموسيقى، فالكندي كان له أكثر من خمسة كتب في فنون الموسيقى وصناعة الآلات، أما الفارابي فله أكثر من كتاب ورسالة في الموسيقى أشهرها «كتاب الموسيقى الكبير» الباقي من تراثه والمترجم إلى لغات كثيرة، وابن سينا كان مهتماً بالعلوم الموسيقية ونسب الجرجاني إليه اختراع العود، هذا الاهتمام الذي أصبح وصفاً ظاهراً عند الفلاسفة العرب يبدو أنه أُدرج ضمن مجالات الخصومة مع أتباع المدرسة المخالفة (انظر بحث: الموسيقى العربية، رؤية فلسفية، للدكتور بركات مراد، مجلة المسلم المعاصر، عام 2000، العدد، 95). والمقاربة الثانية متعلقة بالمفاصلة مع الطرقية الصوفية التي كانت تستلذ بالغناء والإنشاد، ثم تطورت إلى حالات من التأثر والوجد بالشعر ونصوص الحب الإلهي، حتى أن بعض الفقهاء ردّ الخلاف في إباحة الغناء والمعازف إلى علماء التصوف، وهذا يُشعر بمدى تعمق الخلاف بين الفريقين ما يجعل مسألة سماع المعازف فاصلاً بين الصوفية وما سواها (انظر: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني، طبعة مؤسسة قرطبة 1993، 1/163). هذه التداخلات المعاركية بين تلك الاتجاهات الفقهية ثم العقائدية، جعلت طبيعة الخلاف يتجاوز المجال التداولي للفقه نحو المفاصلة الشمولية التي تمليها تلك المواجهات الكلامية وإن ظهرت بلباس فقهي خاص. وفي الختام، فإن مناقشة هذا الموضوع لا بد من أن تُلحق بصاحبها الملامة والتصنيف، خصوصاً أن هناك توارثاً فقهياً يُعاد طرحه في كل عصر لتعميق خندق الخلاف بين الأطراف المتخاصمة، ولا يبدو أن هناك محاولة للاجتماع على أصول هذه المسألة، وحسبي من هذا الإيراد وفتح باب المراجعة في هذه المسألة بالذات، أن نحمي حياض الشريعة من التسرع وعدم التورع في تسويغ الإباحة تمريراً للمجون، أو استعمال ألفاظ الجزم بالتحريم، خصوصاً في ما أصله الظن ولا يقترب من القطع، إن من حيث النصوص أو الإجماعات، ورحم الله الإمام أحمد لما سُئل عن الغناء، فقال:» لا يُعجِبُني، إنَّه ينبت النِّفاق في القلب»، ولم يجازف في استعمال لفظ التحريم المستساغ كثيراً عند المانعين، وصدق الحق تعالى :»ولا تقولوا لِما تصفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لِتَفتروا على الله الكذبَ إن الذين يَفترون على الله الكذبَ لا يُفلِحون» (النحل: 116)، فالمغالطة المنهجية خللٌ في البناء لا يمكن أن تقوم بها حجة، ولن يزيدها التحريم هيبة!.