أثارت فتوى الكلباني الشهيرة في إباحة الغناء جدلا شرعيا ومجتمعيا كبيرا، وقد جاء هذا الجدل متزامنا مع ظهور فتاوى مختلفة، نافضة غبار التاريخ عن كتاب الحديث والتراث الإسلامي، فظهرت أدلة وحجج جديدة بغض النظر عن قوتها أو وهنها معللة لهذه الفتاوى، والأهم من هذا كله أن هذه الأدلة كشفت حجم اتساع شريعتنا الإسلامية ووسطيتها في كثير من الأمور ومنها قضية الغناء وغيرها. وطبقا لصحيفة " عكاظ " السعودية التي نشرت هذا التحقيق اليوم فقد جاءت فتوى إباحة الغناء مفاجئة للكثيرين كونها صدرت من أحد المشايخ المحافظين وتنوعت الآراء حولها مابين محرم ومعارض ومبيح بشروط. «عكاظ» فتحت الملف الجدلي الشائك حول الحكم الحقيقي للغناء واستطلعت آراء عدد من العلماء والفقهاء والمختصين في الشريعة وناقشتهم في العلل التي ساقوها مع آرائهم المتفاوتة بين الإباحة بشروط والتحريم في سياق التحقيق التالي : أوضح مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكةالمكرمة الدكتور أحمد قاسم الغامدي أن العلماء أفتوا بإباحة الغناء، قائلين بأن الأصل في الأشياء الإباحة مستدلين بعدد من الأحاديث الصحيحة منها حديث غناء الجاريتين في بيت النبي صلي الله عليه وسلم عند عائشة، وانتهار أبي بكر لهما، وقال: أمزمار الشيطان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه وعلل ذلك: بأن هذا يوم عيد وأنه يريد أن يعلم اليهود أن في ديننا فسحة، واستدل الغامدي بما روى البخاري وأحمد عن عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ياعائشة، ما كان معهم من لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو». وعن عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوار يغنين. فقلت: أي صاحبي رسول الله أهل بدر يفعل هذا عندكم ؟! فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا، وإن شئت فاذهب، فإنه قد رخص لنا اللهو عند العرس. مباح بشروط وأضاف الغامدي: اتفاق العلماء على إباحة الغناء عند خلوه من الفحش والفسوق والتحريض للمعصية وذلك في مواطن السرور المشروعة، كالعرس وقدوم الغائب، وأيام الأعياد، والنصر وأحوال الترويح، وذكر أن الاستماع للمعازف مسألة اجتهادية والخلاف فيها مشهور فمن أخذ بأدلة المجوزين للاستماع ممن يطمئن إليهم من أهل الذكر فلا حرج ومن أخذ بأدلة المحرمين لاستماع المعازف ممن يطمئن إليهم فلا يستمع. وبين أن الغناء المصحوب بالآلات الموسيقية حكيت إباحته عن جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء كعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وحسان بن ثابت وعبد الله بن جعفر وعمر بن عبد العزيز والقاضي شريح، وسعيد بن المسيب، وطاووس وقاضي المدينة سعد ابن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري وعبدالعزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدينة وشعبة والمنهال بن عمرو ومالك بن أنس وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والشعبي والقاضي أبو بكر بن العربي والغزالي وابن النحوي وابن طاهر وابن حزم وعن بعض الشافعية، وعن أبي إسحاق الشيرازي، والإسنوي في «المهمات» عن الروياني والماوردي، ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور، وابن الملقن في العمدة عن ابن طاهر، والأدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وصاحب الإمتاع عن أبي بكر بن العربي، وجزم بالإباحة الأدفوي وآخرون، وأشار إلى أن المسائل الاجتهادية المختلف فيها بين العلماء لا يسوغ التعنيف والإنكار فيها فقد اختلف الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم ولم يعنف بعضهم بعضا كما اختلفوا في حياته وأقر عليه السلام المختلفين حين قال (لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة) فخرجوا إلى بني قريظة فاجتهد بعضهم فصلى في الطريق وآخرون قالوا لا نصلي إلا في بني قريظة عملا بأمره عليه الصلاة والسلام، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لم يعنف الفريقين بل أقرهما على اجتهادهما وهذا يدل على سماحة الإسلام وعدم التعنيف في مسائل الاجتهاد، مشيرا إلى أن العلماء كرهوا دوام السماع والاستكثار منه محتجين أن هذا ليس ديدن أهل الإيمان، كما قالوا يندب الغناء في المواضع المأثورة ويباح فيما سواها للترويح، ويكره إذا أشغل المسلم عما ندبه الشرع كما يحرم إذا أشغل المسلم عن واجب أو أوقعه في محرم، مختتما أن الغناء ليس إلا كلاما، حسنه حسن، وقبيحه قبيح. السماع والاستماع وأكد أستاذ أصول الفقه المشارك في كلية الشريعة في جامعة الطائف الدكتور فهد الجهني أن الغناء لا إشكال فيه فهو صوت لكن الخلاف في الكلمات التي يتغنى الإنسان بها. وقال لا بأس غناء الإنسان أغنية معروفة وباللحن المنتشر بين الجمهور دون استخدام آلات العزف فقد قال الشافعي رحمه الله (الغناء كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح) لكن ينبغي تنزيه الإنسان نفسه عن الأغاني الحاملة لشعار أهل الفسق، مبينا أن اقتران الكلمات الحسنة بالمعازف كما هو اليوم حكم الجمهور بحرمة ذلك كما جاء في النصوص الصريحة. مضيفا: «العلماء المحرمون للمعازف فرقوا بين السماع والاستماع لكن الأصل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). موضحا أن مرور الإنسان بالأماكن المتواجد فيها الغناء كدخوله المطاعم وغيره دون قصد، ينطبق عليه حديث الرسول السابق ولا حرج إن اضطر للسماع بل الحرج عند التعمد، وأفاد الجهني تقسيم البعض للغناء لنوعين فاحش وعفيف وهذا من الخطأ فالغناء المحتفي بالمعازف محرم وإن كان عفيفا، وأما الفاحش الممزوج بالمعازف فأشد حرمة، ولفت الجهني إلى أن المعازف مفروغ منها منذ زمن فقد اتفق الفقهاء المتقدمون وحكى ذلك أكثر من عالم على تحريمها. حرمة الأغاني لكن عضو المجامع الفقهية الدكتور محمد النجيمي شدد على مسألة اتفاق جمهور الفقهاء على حرمة الأغاني المقترنة بآلات الطرب والمشتملة لوصف النساء والخمور، قائلا: «هذا التحريم هو مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة وقول الشافعية والحنابلة والثوري والنخعي وسائر أهل المدينة والكوفة»، مضيفا «حكى ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس عن الطبري إجماع العلماء على كراهية الغناء والمنع منه ذاكرا في كتابه أن من فارق الجماعة هو إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري، واستشهد بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (عليكم بالسواد الأعظم فإن من شذ شذ بالنار) قائلا إن السواد الأعظم حرموا الأغاني ومنعوه، وبين أن الإمام ابن الجوزي نقل أن هناك إجماعا في تحريم الغناء ولم يخالفه أي الإجماع سوى ابن حزم. وعلق النجيمي أن أبا القاسم الدولقي كشف بأن الصحابة رضي الله عنهم لم يرد سماعم الغناء ولم يجمعوا له جموعا أو يحضروه ويثنوا عليه بل قبحوه، مشيرا إلى أن الرافعي وهو من أئمة الشافعية جزم بتحريم الغناء لكن أهل الظاهر وعلى رأسهم الإمام ابن حزم لم يحرمه. وبين النجيمي أن ما نقل عن الصحابة والتابعين من إباحة إنما هو خاص بالغناء الحماسي الخالي من المجون وآلات الطرب.. كما أباح الغناء من المعاصرين مجموعة أمثال الدكتور يوسف القرضاوي وعبد الله الجديع وسالم الثقفي ومحمد المرعشلي لكن العلماء استفاضوا في الرد عليهم. وفرق النجيمي بين الغناء الفاحش المشتمل على وصف الخمور والنساء والاختلاط قائلا: «هذا النوع لم يبحه العلماء سواء من المتقدمين أو المعاصرين وبين الغناء الخالي من الصفات السابقة كالخمور فقد أيده ابن حزم لكن الجمهور من العلماء لم يبيحوه». وكشف النجيمي جواز ضرب الدف في النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم (اعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف)، موضحا أن إباحة الدف خاص بالنساء والجواري وليس للرجال خشية تشابه الجنسين وتقليدهم لبعضهم. مستدلا بما استشهد به شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى وكذلك ابن قدامة في المغني عندما قالت عائشة رضي الله عنها (دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جوار الأنصار تغنيان بما تقولت الأنصار يوم بعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم العيد فقال الرسول صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا). وفسر الحديث السابق بأن كل مستدل به لإباحة الغناء قد أخطأ فالنبي صلى الله عليه وسلم أباحه يوم العيد فدل أن غير العيد ليس كذلك، وقال النجيمي: «في الحديث أعلاه رد على من جوز الغناء مطلقا فالجاريتان على القول الصحيح كان غناؤهما مجرد إنشاد لأشعار الشجاعة والحروب التي قيلت يوم بعاث وهذا نوع مباح في الزواج والأعياد وقدوم الغائب على أن يخلو من الموسيقى والمعازف والفحش والمجن». حاجات الأمة وفي الوقت الذي رأى النجيمي تحريم الغناء بشكل مطلق أكد رئيس المنتدى الإسلامي للحوار العالمي الدكتور حامد الرفاعي أن الغناء من المسائل الخلافية التي لا ترقى إلى حكم محدد فالبعض حرمه وآخر كرهه وصنف أحله بعيدا عن فحش القول، مضيفا «أرى النية والقصد أهم شيء كما يمكن اعتبار الغناء من الضرورات التي تحكمها حاجات الأمة فعلى الإنسان السداد والمقاربة في المسائل الخلافية». وبين بأن الغناء لابد أن يأتي في مؤخرة الأمور وألا يأخذ أكبر من حجمه وليس كمن يزيد منه ويهوله فالغناء أولا وأخيرا من المحسنات لا الملحات، وزاد : «هناك أمور أدعى وأهم للتركيز فالأمة تتعرض لهجمة شرسة لأجل إبادتها وهذا يعني أننا والمغنون في دائرة واحدة ولسنا أعداء كما يصورهم البعض»، واستشهد بالعلامة محمد الغزالي فقال كان رحمه الله لا يرى حرجا شرعيا في الغناء أو الموسيقى. ويواصل سمعت هذا الرأي من الغزالي بنفسي فقد كان يردده مرارا وتكرارا وقد شرفت بمجالسته مع كبار العلماء والمفكرين فكان يقول أمامهم لا حرج شرعا في الغناء والموسيقى إذا كان القصد كريما ويخدم ضرورات الأمة. واستدل بقصة حدثت أمام كبار العلماء في المملكة العربية السعودية قائلا جاء أحد المستفتين وهو إعلامي يسأل عن فتوى القرضاوي التي أباح بها الغناء والموسيقى خاصة أن قناته لا يمكن أن تعمل بلا موسيقى أو غناء فرد علماء المملكة: ( لاشك في أن القرضاوي عالم جليل نحترم علمه وفقهه ويكفيك أن تلتزم بما أفتاك به) أي باستخدام الموسيقى والغناء. وأوضح رئيس المنتدى الإسلامي للحوار العالمي بأن الموسيقى والغناء من الأمور التي تحدث بشأنها علماء السلف والخلف قديما وفرقوا بين الغناء والموسيقى واستخدام المعازف. الكراهة والجواز وأفاد الفقيه الدكتور عبد الله فدعق أن الفقهاء اختلفوا في حكم الغناء، مبينا أن الغناء إن كان القصد منه الترويح عن النفس، ولم يتضمن أيا من المحرمات السابقة، فقد اختلف في حكمه بين الكراهة والجواز. ولفت فدعق إلى أن بعض العلماء ممن قال بحرمة الغناء جعلوه في حالات معينة؛ كأن يصاحبه منكر، أو يكون طريقا لفتنة، أو سببا للتفريط في الواجبات، مشيرا إلى أن المعازف قد أباحها بعض العلماء شرط ألا تصاحبها مجالس سيئة، وأما من حرم المعازف، فحجته أنها ترافق الغناء. ووافق الأستاذ المساعد في الجامعة الإسلامية الدكتور هاني فقيه رأي سابقه فدعق في وجود خلاف بين العلماء في حكم الغناء، مشددا على ضرورة مراعاة الخلافات وإن كان جمهور العلماء حرم الغناء وبعضهم رأى جوازه، وبين فقيه أن الصواب لا يكون مع الجمهور أحيانا فقد يوافق القلة كابن طاهر المقدسي وجماعة من الأئمة كما أن الشوكاني نسب إلى بعض أهل العلم تجويز الغناء، وأشار فقيه إلى حرية الإنسان في سماعه فإن رأى الحرمة فليس من حقه التحريم على المجيز.. وذكر أن العلماء لم يختلفوا في الغناء بلا آلات موسيقية ولم يمنعوا ترديد الأغاني الشهيرة بلحنها المعهود على ألا يحوي آلات معازف أو فحش في القول، ونادى الفقيه بضرورة مراعاة الاختلاف في أحكام الغناء قائلا: «من أحب الاحتياط لنفسه فلا بأس شرط ألا يلزم غيره برأيه كما يتعمده البعض»، مستشهدا بقصة عبد الله بن عمر رضي الله عنه حين لم يلزم من كان معه بعدم سماع الغناء ولم يلزم المغني بالتوقف بل اكتفى بسد أذنيه للورع.