يبدو أن معاركنا الثقافية والفقهية ستستمر طويلا فما أن تخبو معركة هنا، إلا وتتطاير حمم معركة هناك، ومن ذلك هذا السجال العلمي بين الدكتور . محمد بن يحيى النجيمي والدكتور حمزة السالم على خلفية مقال كتبه السالم ونشر في الجزيرة على جزئين وجاء عنونه: في تدليس الفقهاء (1) د. حمزة بن محمد السالم التدليس عند أهل الحديث ليس كذباً مستقبحاً بل حيلة مقبولة إصلاحاً عند المحدثين، يلجأ إليها المحدث عند اعتقاده بصحة الحديث المنقول عن طريق من هو ثقة عنده في نفسه عموماً أو ثقة فقط في حديث بعينه، ولكنه ليس بثقة عند جمهور المحدثين أو ليس على شرطه. فإذا حدث هذا «الشيخ المشبوه» بحديث لمحدث يثق به وأراد المحدث إدراج الحديث في مسنده أو في صحيحه، يقوم المحدث بإسقاط اسم «الشيخ المشبوه» من السند ولا يصرِّح بسماعه منه بل بالتعنين عن الشخص الذي بعده في السند، أي بِعن فلان أو قال فلان، فيحتمل السماع منه مباشرة أو عن طريق شخص أو أشخاص لم تُذكر أسمائهم. وعادة ما يلجأ المحدِّث إلى هذا إذا علِم بأن إيراد اسم «الشيخ المشبوه» ضمن السند سيتسبب برد الحديث جملة وتفصيلاً أو تصنيف الحديث ضمن الضعيف. وعلى أي حال فكل هذا استطراد قد جاء عفوا، فكل هذه الحجج مردود عليها من المخالفين، ولكن شاهدي هنا هو التمهيد للحديث عن تدليس الفقهاء قياساً على تدليس المحدثين. لذا فمن المناسب هنا إيراد الشاهد من رد ابن حجر العسقلاني (في تغليق التعليق على أحاديث الصحيح) على من طعن في صحة سند حديث المعازف. فقد كان من أقوى حججه العقلية رحمه الله أن الإمام البخاري لم يكن مدلساً ولم يشتهر بذلك، على الرغم من أن التدليس لا يقدح في شخص المحدث نفسه ولكن في صحة الحديث فقط إذا عنعن المحدث أو قوقل (أي نقل الحديث بصيغة قال). وكنت ممن يؤمن بهذا التخريج العقلي لوقار وعظم أبي عبد الله في نفسي حتى تبين لي كثرة تدليس الفقهاء على اختلاف مراتبهم وفضلهم وورعهم في مسائل التحريم من باب الاحتياط، فهم يتوسعون فيحرمون ما لا يثبت تحريمه من أجل سياسة شرعية استحسنوها بعقولهم، وسيكون لنا فيما سُكت عنه في ذلك أحاديث ذو شجون. في تدليس الفقهاء (2) د. حمزة بن محمد السالم التدليس مصطلح متعارف عند المحدثين لا يعيب صاحبه ولا يطعن فيه غالباً، وكذا تأثر الفتوى وتحريفها بمفهوم سد الذرائع والمصلحة والسياسة الشرعية عند الفقهاء لا يعيب صاحبها ولا يطعن فيه غالباً. والجامع بين المحدث والفقيه في التدليس أو تحريف الفتوى هو الاجتهاد العقلي المحض؛ لذا فلا مُشاحة أن نسحب وصف التدليس على الفقهاء، وبالعكس - أي أن نسحب مفهوم سد الذرائع والمصلحة الراجحة والسياسة الشرعية على المحدثين في حال تدليسهم في الأسانيد -. أمانة الفقيه ورغبته في عدم مخالفة الفتوى المعمول بها تورعاً أو ضعفاً هي ما تلجئه عادة إلى التدليس في الفتوى. وهذه هي الحالة التي تفسر ما يتناقله الناس بأن هناك فتاوى للعامة وفتاوى للخاصة. والحق أنه ليس كذلك، بل إن الفقيه في حالة كهذه يدين الله - بتتبعه للأدلة وبما أتاه الله من فهم - بخلاف الفتوى المشهورة والمعمول بها؛ فيخص بها خاصته، ولكنه لا يشهر برأيه عند العامة إما تورعاً أو ضعفاً، بل يدلس الفتوى بأن يذكر الحكم على الفتوى المعمول بها في البلاد؛ فيظن السامع أن هذا هو رأي الشيخ وإن لم يكن رأيه. وقد رد عليه النجيمي بمقال عنونه ب: كلامك فيه تدليس وغشّ وتزوير قرأت في صحيفة الجزيرة الجمعة27 رجب 14431ه مقالاً للدكتور حمزة السالم بعنوان (في تدليس الفقهاء) تكلم فيه عن التدليس ومثل له بحديث المعازف وخرج ألا حجة فيه، ثم حشد أدلة المجيزين للغناء، ثم استخلص إلى أنه انتبه لضعف شبهة كان يتكئ عليها بسبب تدليس الفقهاء، فأراد أن يثبت أن علماء الأمة وأمنائها وحملة الشريعة من أول النقلة وهم المحدثون الأمناء إلى الفقهاء الأمناء على الفتوى ليسوا أمناءً عذراً بل مدلسون يدلسون في الحديث كما يدلسون في الفتوى بغرض إضلال حمزة السالم ويحرمون عليه الغناء الذي أحله الله كما يزعم.. ونقول لك أيها الرجل: زعمت أن التدليس عند أصحاب الحديث ليس كذباً.. وهذه مراوغة وتدليس أيضاً وغش، فالمحدثون قسموا المدلسين لأنواع بالطبع ليس منهم البخاري- منهم مايقع له هكذا كما قال مسلم في مقدمة صحيحه فإن القوم يستجيزون الإرسال بعث أن التابعين كانوا يرون هذا شيئاً طبيعياً أنهم يحدثون عمن سمعوا منه بالعنعنة لسببين: 1 - أنهم أخذوا عنهم كثيراً وصاروا تلاميذا ملازمين لهم، فيروون عنهم ما سمعوه بالعنعنة وبغيرها وعندئذ فحديثهم يحمل على السماع، وليس العنعنة قرينة التدليس بل تكون للإرسال بنوعيه الخفي والجلي. 2 - ولأنهم يرون أن ذلك الحديث معروف مشهور عن غيرهم سواء سمعوه أم لم يسمعوه كما كان الحسن البصري رحمه الله يفعل وأحسن منه في الإرسال سعيد بن المسيب رحمه الله فمراسيله كلها صحيحة لأن العلماء قبلوها وتتبعوها وعرفوا صحتها، وكان سعيد لا يحدث إلا عن كبار الصحابة وجهالة الصحابة لا تضر، فإذاً كلامك فيه تدليس وغش وتزوير، ثم نقول لك إن التدليس أنواع كثيرة لكل نوع حكمه، فمنها تدليس الشيوخ وهو أن يصف الشيخ بما لا يعرف كأن يقول عن أنس حدثنا أبو حمزة وعن قتادة أبو الخطاب ولم يشتهر بذلك وهذا ليس فيه إسقاط ولا تدليس في السماع وهو معيب خطأ خلاف الصواب عند كل المحدثين. ومنها تدليس الإسناد وهو أن يروي عمن لقيه أو عاصره ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه ولا يقول أخبرنا وما في معناه بل يقول قال فلان أو عن فلان. وهذا القسم مكروه جداً وفاعله مذموم عند أكثر العلماء، ومن عرف به مجروح عن قوم لا يقبل روايته بَيَّن السماع أم لم يبنيه، والصحيح التفصيل، وهذا التدليس كذباً وحكمه حكم المرسل، والشافعي رحمه الله أجرى هذا الحكم فيمن دلس مرة. ومن تدليس التسوية سمَّاهُ بذلك ابن القطان وهو شر الأقسام، وهو الذي وصفته أو قاربت من وصفه وهو أن يسمع المدلس حديثاً من شيخ ثقة والثقة سمعه من ضعيف والضعيف يرويه عن ثقة فيسقط المدلس شيخ شيخه -يعني الضعيف- ويجعله من رواية شيخه من الثقة بلفظ محتمل العنعنة ونحوها، فيصبح الإسناد كله ثقات، وممن كان يصنع هذا الوليد بن مسلم يفعله في حديث الأوزاعي، وهذا النوع شر أنواع التدليس وفاعله مجروح لا يقبل منه إلا إذا صرح بالسماع وهو قادح فيمن تعمده، فإذا دلست أنت أيضاً أو غششت حيث لم تفصل في أنواعه وتبين الخفيف منه والشديد وبل ذكرت أنه حيلة مقبولة وكذبت فليس مقبولة ابتداءً بل كل أحاديث المدلسين لا تقبل إلا إذا صرح بالسماع حتى ولو من شيخه الذي أكثر عنه إلا إذا شهد بذلك أقرانه فعندئذ يحمل على السماع، ثم إنك خلطت بين نوعي التدليس فعبَّرتَ بالشيوخ ثم مثلت بالتسوية، فهل لم تكن الفرق بينهما أم أنك تعمدت ودلست، فلو عاملناك كما هي القاعدة في التدليس لم نقبل لك قولاً إلا إذا سانده الثقات غيرك، ثم إن التدليس عموماً من أسباب الطعن في الراوي فكيف يكون مقبولاً، فإن أسباب الطعن إما أن ترجع العدالة وإما أن ترجع للضبط أو لغيرها كالتدليس والإرسال والعلل وغيرها. ثم ما معنى كلمة التعنين أهي العنعنة لا نعرف في مصطلح الحديث لفظ التعنين بل العنعنة؟ فهل هذا تهكم أم استهزاء أم أنك رأيتها في كتب الفقه ويراد بها الزوج العنين كما في المجموع والتنبيه والمهذب وهو عدم قدرة الرجل على وطء زوجته، فهل تستهزئ بمصطلحات أهل العلم أم أنك تستخدم القياس في اللغة وهو غير جائز عند الأئمة من اللغويين والأصوليين أما أننا يجوز لنا أن نستخدمها معك - وبنفس الكأس تشرب -وعلى نفسها جنت براقش، فأنتم المجددينات جمع سالم فنقول جمع مدلس السالم، فنقول راجع الرواية عن الشيخ أحمد شاكر. هذا عن المقدمة وكلامك وإن كنت آمل أن أطيل لكن ظروف النشر تمنع، وأما كلامك عن البخاري: إن البخاري لا يعرف بالتدليس، وإنما حمله على ذلك أنه سمعه منه مذاكرة أو أراد أن يبين حال هشام بن عمار أنه صدوق قد يغلط أحياناً وأنه انتقى من حديثه قال ابن الصلاح والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح والبخاري قد يفعل ذلك لكون الحديث معروفا من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علق عنه وقد يعقلها لأسباب أخرى وأنه لا انقطاع أصلاً لأن البخاري لقي هشام وسمع منه فلو تحقق السماع واللقاء مع السلامة من التدليس حمل الحديث على السماع بأي لفظ قال كما حمل قول الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث معروف بعينه متصل من غير جهة البخاري فقد رواه أبو داود والأصبهاني وصاحب المستخرج من غير طريق البخاري متصلا صحيح الإسناد وقوله قال قيل عن سواء كما قال ابن القيم في حالة البخاري. والبخاري لم يضع في صحيحه إلا ما جزم بصحته فهو أبعد خلق الله عن التدليس وقد علقه بالجزم وصح ما علقه بالجزم إلى من علق عنه باتفاق كل من تعرض للبخاري، ثم إن الأثبات والثقات قد رووا نفس الحديث عن هشام موصولاً كالإسماعيلي قال ثنا الحسن ثنا هشام، وقد صح أيضاً من غير طريق هشام أصلا قال الإسماعيلي ثنا الحسن ثنا عبدالرحمن بن إبراهيم ثنا بشر ثنا ابن جابر عن عطية بن قيس... به، والبخاري حريص على تعليق الحديث إلى من علقه عليه وقد جزم بثبوته عن هشام وهذا في سائر الصحيح عند كل علماء المصطلح قال الزركشي قول البخاري قال فلان عن شيخ له لقيه ليس تدليساً ولا تعليقاً بل هو متصل وقال ابن حجر الحديث لم ينفرد به هشام ولا صدقة بل أخرجناه عن رواته بشر بن بكر عن شيخ صدقة والحديث فيه حَلَف أبو مالك الأشعري قال يميناً حلفت عليها وقال ابن حجر وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم الحسن ابن سفيان وعبدان وجعفر الفريابي وهؤلاء حفاظ أثبات، وله عندي شواهد أخر كرهت الإطالة بذكرها وفيما أوردته كفاية لمن عقل وتدبر ا. ه كلام ابن حجر.. فنقول ليت حمزة السالم يتدبر. أما قولك إن حديثاً واحداً فقط يحرم الغناء ومشكوك عنه؟ نقول ليس مشكوكاً فيه كما سبق إن عقلت. ثانياً: ليس واحداً بل كثيراً من النصوص حتى حكى عن الأئمة الأربعة تحريم الغناء كأبي حنيفة وأبي يوسف بل نقل البزازي في المناقب الإجماع على حرمة الغناء إذا كان على آلة العود - البحر الرائق - وأما المالكية فكان مالك يكره الدفاف للعروس كلها بل هذا مشهور عنه في المدونة والشافعي نص على حرمته حتى قال النووي المزمار العراقي وما يضرب به الأوتار حرام بلا خلاف -روضة الطالبين- وقال في غذاء الألباب فالمذهب تحريم آلات اللهو اسماعاً واستماعاً وصنعة. وهذا عن الحنابلة، بل ورد فيه إجماعات كثيرة على مرّ العصور كالإجماع الذي وقع في عهد عمر بن عبدالعزيز وهو الذي نقله وكذا الأوزاعي نقل الإجماع والآجري والطبري والبغوي وابن قدامة وابن الصلاح والنووي والقرطبي وآخرون. قال ابن جرير في تهذيب الآثار بعد أن ذكر تحريم الطنابير والمزامير والعيدان وكسرها قال وبنحو الذي قلنا في ذلك وردت الآثار عن السلف من علماء الأمة وعمل بها التابعون لهم بإحسان ثم روي بإسناده كان أصحاب عبدالله يستقبلون الجواري معهن الدفوف في الطرق فيخرقونها، وقال ابن رجب في نزهة الأسماع حكى أبوبكر الآجري وغيره الإجماع من العلماء على ذلك. وقال أبو الطيب الطبري - 348ه فقد أجمع علماء الأمصار على كراهته والمنع منه فأما آلات اللهو فلم يحك في تحريمه خلافاً وقال إن استباحها فسق. قال ابن حجر الهيثمي وممن نقل الإجماع إمام أصحابنا المتأخرين أبوالفتح سليم الرازي قال ومع هذا فإنه إجماع. وقال البغوي واتفقوا على تحريم المزامير والملاهي والمعازف - شرح السنن - وقال ابن البزري - 471ه - ولم يقل العلماء المتقدمون ولا أحد منهم بحلها وجواز استعمالها (كف الرعاع) وقال ابن أبي عصرون: بل هي - أي الشبابة - أجدر بالتحريم من سائر المزامير المتفق على تحريمها لشدة طربها (كف الرعاع) وقال ابن قدامة آلة اللهو كالطنبور والمزمار آلة للمعصية بالإجماع. وقال الرافعي المزمار العراقي وما يضرب به مع الأوتار حرام بلا خلاف. وقال ابن الصلاح لم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح السماع. وقال الأوزاعي كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عمر بن الوليد كتاباً فيه (وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام ولقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك جمة السوء) رواه النسائي بسند صحيح في سننه (4135) فهو حكى أن عمر سمى إظهار المعازف والمزامير بدعة في الإسلام فهذا إجماع إلى زمنه وعمر صلى خلف أنس بن مالك، فتأمل قوله: (إظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام فهذا صريح أن المعارف لم تظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عصر الصحابة حتى زمن عمر بن عبدالعزيز وأن عمر بن عبدالعزيز علم حرمة المعازف والمزمار من الصحابة لذلك استحق عمر بن الوليد أن تجز جمته ويشهر به. ثم إن قولك في رد ابن حجر العسقلاني على من طعن في صحة حديث المعازف على أقوى - في نظرك - حججه العقلية أن البخاري لم يكن مدلساً فنقول هذه ليست أقوى حجة عقلية عنده بل أقواها أنه ثبت الحديث بعيداً عن طريق البخاري ورواه خمسة أنفس كلهم ثقات وتوبع هشام وصلة الراوي. فالحديث جاء من طرق منفردة بعيدة مستقلة عن البخاري، وأن البخاري لا يضع في صحيحه بصيغة الجزم عند كل الأئمة إلا ما ثبت عنده لمن علقه عنه، وكل ذلك سبق رداً مستفيضاً يليق بالمقام، ثم إنك تزعم أنك تركت هذه الحجة القوية من ابن حجر لأنك رأيت الفقهاء يدلسون، يعني معنى كلامك أن الفقهاء ربما دلسوا هذه الحج من باب إثبات الرأي فقط والانتصار له فلذلك عدلت عن هذه الحجة العقلية لئلا يكون ابن حجر أو البخاري نفسه دلس، والبخاري لم تشهد الأيام ورعاً تقياً مثله في زمانه، فكان يتورع عن أكثر الحلال مخافة أن يقع في المكروه، حتى جاء الذي لم يسلم منه البخاري مع أنه سالم سليم فاتهم البخاري بالكذب أو عفواً بالتدليس الذي قال عنه شعبة هو أخو الكذب ولأن أزني أحب آلي من أن أدلس، والبخاري تورع عن مطالبة رجل بحق ماله خشية ان يدخل عليه السلطان فيفزعه ثم لا يتورع أن يكذب أو يدلس، ويكتشفه العلامة الجهبذ السالم الذي لم يسلم منه علماء الأمة لا فقهاء ولا محدثون، ثم إنك قلت إن الفقهاء من باب الاحتياط يدلسون فيحرمون ما أحل الله أو العكس وهذه فرية أسوأ من الأولى؛ فالفقهاء يستعملون التدليس والكذب على قولك، وإليك الاحتياط عند الفقهاء! فالاحتياط عندهم أن تكون المسألة فيها أدلة متنازعة، وورد عن القوم أو العلماء قولان فيلجأ الفقيه للجانب الأقوى الذي يظهر له فيه الرجحان أو يرجح بالاحتياط كما فعل البخاري المتهم - أو المشبوه عندك- فقال في حديث جرهد وأنس لان حديث جرهد غطِّ فخذك وحديث أنس كشف عن فخذه فقال أبو عبدالله وحديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط حتى يَخْرُج من اختلافهم، وقال في حديث أبي بن كعب إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل قال يغسل ما مس منه ثم يتوضأ.. فقال أبوعبدالله الغسل أحوط وذاك الآخر - يعني المتأخر - وإنما بينا لاختلافهم، وقال الشرواني (وإنما ذكروا الترجيح بالاحتياط إذا لم يندفع التعارض بخصوص الآخر أما إذا اندفع بذلك فيرتكب كما يعلم ذلك بمراجعة الأصول) ثم أنقل لك كلمة ابن نجيم الحنفي قال: (إن المحرم والمبيح إذا اجتمعا يغلب المحرم احتياطا، وقال الكاساني وعند الاشتباه يجب العمل بالاحتياط) وقال في كشف الأسرار فإن العمل بالاحتياط في حيز الكافر مستحب مع كفره). وهكذا فالاحتياط يرجح به عند شدة التعارض وتنازع الأدلة، أما في مسألتنا هذه فالاجماع انعقد على حرمة الغناء وكفى بقول عمر بن عبدالعزيز الذي صح سند النقل إليه، فهذه من تلبيسك وتدليسك في مسألة الاحتياط وقال في البرهان للجويني (إذا تعارض ظاهران أو نصان وأحدهما أقرب للاحتياط فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الأحوط مرجح على الثاني) وقال في اللمع: الحادي عشر- من المرجحات- أن يكون أحدهما احتياطاً فيقدم على الذي لا احتياط فيه لأن الأحوط للدين أسلم. فهذا هو الاحتياط عند الفقهاء لا الاحتياط عندك الذي هو من التدليس والغش، فليس عند الفقهاء إقصائية كإقصائيتكم. د. محمد بن يحيى النجيمي